تهتم هذه المدونة وتعنى بتاريخ وتراث وأعلام العقبة وجوارها

الأربعاء، 27 يونيو 2018

ابن فضل الله العمري ( ت 749 هــ ) : أسواق أيلة ( العقبة ) العظيمة تفوق أسواق العواصم والمدن الكبرى



اهتمّت الدولة المملوكية بدرب الحاج المصري وبمحطّاته التي ينزل فيها ركب الحجيج لينالوا قسطاً من الراحة قبل مواصلة رحلتهم إلى بيت الله الحرام في مكّة المكرّمة ، ونظّمت درك درب الحاج مع القبائل العربية التي يمرّ درب الحاج بديارها ممّا وفّر الأمن ممّا جعل أفراد هذه القبائل يتاجرون مع ركب الحجيج في مختلف محطّاته ولا سيّما في مدينة أيلة ( العقبة ) بالماء والغنم واللبن والسمن والعسل والأقط والتمر والعلف والجمال للبيع والكراء ، وقد أصبحت العقبة في ذلك العهد مدينة تجارية كبرى تقوم فيها في موسم الحجّ أسواق كبرى تزدهر بمختلف التجارات التي لا تتوفّر في عواصم الأقاليم والمدن الكبرى ، وفيما يلي نصّ نفيس للعالم المؤرّخ الجغرافي ابن فضل الله العمري ( ت 749 هــ ) فصّل فيها القول في درب الحجيج ودرك القبائل ومدينة أيلة ( العقبة ) :

قال ابن فضل الله العمري ( 700 ــ 749 هــ 1301 ــ 1349 م ) في ذكر طرق الحاج إلى مكّة المكرّمة : " وإذ قد تكلمنا على الطرق ، فنحن نذكر الآن ما لا يستغني عنه في هذا الباب وهو الطرق المسلوكة إلى مكة شرفها الله تعالى من الجهات التي لا تقصد مكّة غالبا إلا منها . وهي أربع جهات . مصر ، ودمشق ، وبغداد ، وتعز . فإن المحامل السلطانية وجماهير الركبان لا تخرج إلّا من هذه الأربعة البلاد . فأمّا المصري والدمشقي فهما ولله الحمد سبيل لا ينقطع في كل سنة ، ويخرج الركب من كلّ مصر ودمشق بالمحمل السلطاني والسبيل المسّبل للفقراء والضعفاء المنقطعين بالماء والزاد والأشربة والأدوية والعقاقير والدريقات والمعاجين والأطباء والكحالين والمجبّرين والجرايحيّة في أكمل زيّ وأتمّ أبّهة ، وبالأعلام والكوسات السلطانية والأدلاء والأئمة والمؤذنين والأمناء ومغسّلي الموتى والأمراء والجند والقاضي والشهود والدواوين ، بطليعةٍ وساقةٍ وضويّة في أوائل الركب ووسطه وآخره ، كلّ هذا ليسهل الطريق إلى بيت الله الحرام وزيارة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم ، وإذا نزلوا منزلًا أو رحلوا مرحلاً تدقّ الكوسات وينفر النفير ليؤذن الناس بالرحيل والنزول ، ويحصل بهذا الاستعداد والتأهب ، فلا يعتاق أحد فيبقى عرضة لأن يؤذى أو يتخطّف ، ثمَّ إذا سروا ليلاً أو ساروا نهاراً يمشي وراءهم من الجند من يحفظ ساقتهم من لصوص العرب وقطّاع الطريق ، ثم إذا نزلوا منزلاً ، كانت الأمراء والجند على يقظة لمهاجمٍ يهاجم ، أو مخالسٍ يختلس ، فإذا أمسوا دارت النقباء على الركب من خارجه بزفّة تشتمل على أضواء كثيرة توقد في المناور ، ويركب معها جند على الخيل ، ويمشي معها رجالٌ بالسلاح وينادي بأعلام الركب أين نزلوا . وفي أرض من هم من العرب ، ويوصيهم المنادي بالاحتراز ، وبما يستعدُّ به لرحلتهم ، وما يصلحهم في ذلك المكان لأمر سفرهم ، فمن رأى ذلك من نظارة العرب هابه وعلم تيقّظ الركب لأمورهم . ورأى أهل الشوكة فيهم ، فانكفَّ طمعه وانقطع أمله ، ومع هذا كلّه فإنَّ ملوكنا أثابهم الله تعالى رتّبوا لقبائل العربان في الطرق رسوماً على خزائن مصر والشام تجهز في خزائن المحملين الشريفين المصري والشامي من الدراهم والقماش والخلع لشيوخهم وأكابرهم عادةٍ جاريةٍ لا تنقطع في كلِّ سنةٍ ، فإذا نزلوا أرض قومٍ ، خرجت مشايخهم لتلقّي المحمل السلطاني وقبّلت الأرض وعقب الصنجق المنصور ، ومشت في الخدمة السلطانية وأودع من أهليهم وذوي قرابتهم وأهل المراتب فيهم أناس في السلاسل ، ووكّل بهم من يحفظهم ، ويستمرّون على هذا إلى أن يخرجوا من أرضهم ، فيطلق سراحهم ، ويُخلع عليهم ، وتوصل إليهم رسومهم، وإنّما يعمل هذا فيهم لاحتمال أن يؤخذ شيءٌ للحاج فيطلبون به ويكونون رهائن عليه ، فلا يستطيع أحدٌ أن يتجاسر ولا يعترّض الحاج بأذيةٍ ، وربّما تبع الحاج قومٌ من غير أرض أولئك القوم وسرقوا فيحتاج هؤلاء أن يتبعوهم ويستعيدوا منهم الأخيذة بعينها أو الثمن عنها ، وجرى هذا غير مرّةٍ ، وصار للحاج بهذا أمنٌ عظيمٌ على أنفسهم وأموالهم . ولمّا ثبّت الله تعالى قواعد هذه الدولة الشريفة الملكية الناصرية مدَّ الله أيامها ، وشدَّ بأطناب المجرّة خيامها ، دانت لها الأمم ، ووفدت العرب عليها من كلِّ جهةٍ وعادوا بالجوائز والأنعام ، فزادوا رغبةً في الوفود عليها ، والورود إليها لتقبيل أعتابها ، وتكحيل الجفون بتراب أبوابها ، ورأوا من الصدقّات العميمة ما أغناهم وكفاهم ، وشاهدوا من مهابة هذه الدولة القاهرة ما منعهم ووزعهم وسكن في قلوبهم من خوف سطواتها ما لا يخرج ، واستقرَّ في صدورهم من عظمتها ما لا يتزحزح ، فصاروا يخرجون إلى الحجّاج إذا حلّوا في أرضهم ونزلوا ببلادهم متظاهرين نهاراً جهاراً بالماء والغنم واللبن والسمن والعسل والأقط والتمر والعلف والجمال للبيع والكراء وتقام الأسواق على كلِّ منهل ماء ، وفي كلِّ مكان ، والحجّاج في غاية الطمأنينة والأمن والدعة  ، كأنّهم قعود في بيوتهم في وسط مدينة ذات أسوار وأعلاق ومرافق وأسواق ، بل أكثر أمناً وأوسع رزقاً لتولّي أهل تلك الأرض لحراستهم واستعدادهم طول السنة للبيع عليهم في ذلك الوقف المقدّر المعلوم ، فكثرت الرغبة في الحجِّ ، وتعهّد تلك الأماكن الشريفة والأرض المطهرة .
هذا ما هو في الطريق " أ . هــ 


وقال : " فهذه هي أجلّ الجهات التي تقصد مكّة المعظّمة منها ، وهي مواقيت الركبان كما أنَّ ذا الخليفة ، والجحفة ، ويلملم ، وذات عرق ، وقرن المنازل ، مواقيت الحجّ هنّ لهنّ ولمن مرَّ عليهنَّ من غير أهلهنَّ . ولهذا بدأنا بذكر هذه الأماكن في أوائل الدائرة الأولى ، فإننا بدأناها بأقرب البلاد التي تُقصد مكّة منها ، وإن لم تكن متّسعة على ترتيب ، ثم رتّبنا بعدها واقتصرنا على هذه الأربع جهات دون ما تُقصد مكّة منه من الجهات القريبة المبدأ بها في أوائل الدائرة الأولى ، لأنَّ من هذه الجهات الأربع خروج المحامل وجماهير الركبان . فأمّا طرقها المسلوكة ومياهها المورودة فسأذكره :
فأولها طريق مصر إلى مكة : فاعلم أن الركب يخرج من القاهرة مدينة مصر الآن فينزل البركة مرحلة واحدة ، فيقيم عليها ثلاثة أيام أو أربعة ، ويرد ماءها وهو جفار عذب سائغ . ثم يرحل إلى السويس فيأخذ إليه في خمس مراحل ، ويرد ماءه ، وهو ماء ملح لا يكاد يسيغه الشارب ، ويقيم بقية يومه ثم يرحل إلى نخل ، فيأخذ إليه في خمس مراحل ، ويرد ماءه وهو أعذب مما قبله ، ولا بكثير ، وكلاهما ممّا عمل الأمير المقدم الكبير الحاج إلى الملك الجوكندار المنصوري أحد أمراء المشور آجره الله له بِرَكاً ، واتخذ لها مصانع واستأجر أناسا تدبّرها طول السنة حتى يملأ البرك لأجل الحاج في ورودهم وصدورهم ، فيقيم الحاج بنخل بقية يومه ، ثم يرحل إلى أيلة فيأخذ إليها في خمس مراحل ، وفي آخرها على رأس أيلة العقبة العظمى المشقة الصعود والهبوط المذكورة في أقطار الأرض ، وهي تؤخذ في مرحلة كاملة ، فينزل الركب منها إلى حَجُز بحر القلزم ، ويمشي على حُجَزِهِ حتى يقطعه من الجانب الشمالي إلى الجانب الجنوبي ، وينزل عليه ، ويرد ماءه ، ويقيم أربعة أيام أو خمسة ويكمّل منه الظهر والزاد ، وهو مكان مقصود تأتي إليه أجلاب الشام وتقام فيه الأسواق العظيمة الممتدّة المتشعّبة التي لا توجد في أمهات الأقاليم وكبار المدن ، ولعلّ أنه لا يعدم فيها موجود من الخيل والإبل والغنم والدقيق والشعير والعلف وأنواع المأكل والمشارب والمحامل والأكوار والرحال والسلاح والقماش والفرش والأمتعة وغير ذلك . وأيّام إقامة الحاج بها أيّام مواسم ، ثمَّ يرحل إلى حقل مرحلة واحدة ، ويرد ماءه ، وهو أعذب ماء من أيلة وهو على ساحل القلزم ، ثمَّ يرحل إلى برِّ مدين ، ويأخذ إليها في أربع مراحل ، ويرد ماء مغارة شعيب ، وماؤها رديء ، قليل النبع وهي منسوبة إلى شعيب عليه السلام ، ويقال : إنه هو الذي سقى عليه موسى غنم بنات شعیب ، ثم يرحل إلى عيون القصب …. "

قلت : هذا النصّ كتبه ابن فضل الله في عهد السلطان الملك الناصر أبو المعالي ، أبو الفتح ناصر الدين محمد بن المنصور قلاوون الذي تسلطن على الديار المصرية في الفترة من 709 ــ 741 هــ 1310 ــ 1340 م لمدّة 30 عاماً ، بدليل قوله : ( هذه الدولة الشريفة الملكية الناصرية ) .
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق