تهتم هذه المدونة وتعنى بتاريخ وتراث وأعلام العقبة وجوارها

الثلاثاء، 26 يونيو 2018

دور أهالي العقبة في قضية حدود العقبة وطابا عام 1906 م



ظلّت العلاقات بين الدولة العليّة العثمانية وولاية مصر بين مدٍّ وجزر ، وفي عام 1892 هــ فصلت الدولة العثمانية القلاع الحجازية وعلى رأسها قلعة العقبة عن ولاية مصر وألحقتها بولاية الحجاز ، وكانت مصر حينذاك تحت الاحتلال البريطاني ، وفي عام 1906 م ثار نزاع بين الدولة العثمانية ومصر بشان الحدود في منطقة العقبة ليمتدّ فيشمل الحدود بين مصر والدولة العثمانية ، وقد حشد كلّ من الطرفين ما توفّر لديه من أدلة ووثائق لفض النزاع بينهما وترسيخ الحدود بصورة ثابتة .
وكانت المنطقة المتنازع عليها في العقبة وجوارها من مساكن وديار قبيلة الأحيوات ، لهذا سعى كلّ من الطرفين لإثبات تبعيّة القبيلة له ، ومن ثمّ تبعية أملاكها في الأراضي للدولة التي يمثّلها .
وكانت ديار قبيلة الأحيوات تمتدّ من جبال وادي العربة الشرقيّة وباب وادي اليتم إلى قلب سيناء وأطرافها غرباً ، وكان مشايخها يتلقّون الصُّرّة ( مبلغ مالي معلوم ) في كلّ عامٍ من الدولة المصرية ، وكان أكثر القبيلة وجمهورها يقطنون سيناء فيما يقطن قسمٌ آخر وادي العربة ومنطقة العقبة ، وقد استدعى هذا كلّاً من العثمانيّين والمصريّين لاستقطاب شيوخ القبيلة إلى جانبهم لا سيّما شيوخ القبيلة في وادي العربة والعقبة . غير أنَّ القسم الذي يقطن العقبة رفض الاستقطاب المصري وظلّ على انتمائه للعقبة بغض النظر عن تبعيّة العقبة لولاية مصر أو ولاية الحجاز أو ولاية الشام فهم تبع لمنطقة العقبة وجزءٌ من تبعيّتها الإدارية ، وقد عوّضت الدولة العثمانية اثنين من شيوخ قبيلة الأحيوات هما الشيخ مسمح الكبيش وسليمان الخليفي عن خسارتهما للصرّة المصرية بمنحهما صرّة عثمانية بل وأهدتهما سيوفا تكريماً لهما .  



وفيما يلي بيان ذلك :
1ــ جاء في برقيّةٍ أرسلها القائم بأعمال المعتمد البريطاني في القاهرة إلى لندن في 13 يوليو عام 1906 م في ذكر الخطّ المقترح للحدود من المرّشش في العقبة إلى رفح على ساحل البحر الأبيض المتوسّط : " ليس للأتراك أن يتشكوا من شيء فالخطّ المقترح يقدّم حدوداً جغرافية مثالية فهو يتّفق مع خطّ تقسيم المياه كما أنّه بمثابة خطّ استراتيجي نموذجي . القضيّة فقط هي قضيّة توزيع القبائل ، وليس من مشكلة إلّا في مكانين ، ويمكن إقرار الأمر فيهما بنقل قسم كبير من قبيلة الأحيوات ، وهي قبيلة مصرية تقطن في منطقة على طول وادي عربة إلى الإدارة التركيّة ، وبنقل قسم كبير من قبيلة الترابين التي تقع الآن تحت الحكم التركي وتعيش بين رفح والقصيّمة لتصبح تحت الإدارة المصرية ، والخطّ عظيم من وجهة نظر دفاعيّة والمطلوب أن يبقى على ما هو عليه " أ . هــ   
 ونلاحظ في هذه الرسالة أنّ الإنجليز يدّعون أنّ القسم الكبير من قبيلة الأحيوات الذين يقطنون وادي العربة يتبعون الإدارة المصرية ولا مانع لديهم من نقل تبعيتهم إلى للإدارة التركية مع أنّ حقيقة الأمر أنّ وادي العربة وسكّانه الأحيوات يتبعون الإدارة التركيّة في العقبة ، وكانَّ الإنجليز يريدون منح العثمانيّين حصّةً من الأراضي التي تتبع للعثمانيّين أصلاً ، وهو ما لم يسلّم لهم به العثمانيّون .
2ــ قال الدكتور سليمان محى الدين فتوح أستاذ التاريخ الحديث المساعد كلية التربية ببورسعيد / جامعة قناة السويس في دراسته : ( الصراعات القبلية وتخطيط حدود مصر الشرقية والغربية في بداية القرن العشرين )
: " استلزم البحث دراسة عميقة لمحاولة اربط بين الأحداث المتناظرة لمناطق الحدود الشرقية ، والغربية للوصول للسياسات التي تنتهجها القوى لتحقيق أهدافها ، وأطماعها الاستعمارية ، والتي تبدو فيها الصراعات بين القبائل القاطنة على حدود مصر الشرقية ، والغربية مجرد صراعات قبلية ترجع للنزاع على مواطن الاستقرار أو مصادر البيئة المحدودة نسبياً كالاختلاف حول مصادر المياه الواقعة على طول الخط أو العامل الديموغرافي من حيث توزيع القبائل كما هو الحال في قبيلة اللحيوات التي تقطن بطول وادي عربة الواقع تحت الإدارة التركية في الفترة قيد الدراسة ، وقبيلة الترابين التي تعيش بين رفح ، والقصيمة على الحدود الشرقية لمصر " أ . هــ
في هذا النصّ يبيّن الدكتور سليمان محى الدين فتوح أنّ وادي عربة يخضع للإدارة العثمانيّة كما تقدّم بيانه .

3ــ وقال الدكتور مأمون عبد الله أصلان في ذكر العشائر التي كانت تقطن العقبة خلال الفترة من عام 1864 ــ 1925 م والتي كانت تقيم في بيوت الشعر والأكواخ المبنية من الحجر والطين وارتبطت بالسكن والأرض وزراعة النخل ، قال : " الأحيوات .... الذين يقطنون العقبة ووادي عربة ، وكان قسم من قبائل الأحيوات الذي يتبعون شيخهم مسمح كثيراً ما يدعون إلى الثورة على الأتراك ، ويوجّهون ولائهم إلى الحكومة المصرية ، مقابل المنح والأعطيات التي تقدم لهم قبيل ترسيم الحدود بين مصر والحجاز فقد كانت الحكومة المصرية ترسل جنودا من الأحيوات ، يستطلعون الأمر على الحدود ، وأوضاع الناس ومدى ولاءهم للحكومة المصرية " أ . هــ  
وذكر أنّ الشيخ مسمح كان يذهب إلى العقبة وكثيرا ما كان يعرض خدماته عند حاكم العقبة ، وقال : " يجب الإشارة إلى أنّ الحكومة المصرية حاولت التردد في تسليم الأراضي المحاذية للعقبة ونخل ، وخاصة التي تحتوي على آبار الماء ، مقابل تزويد السكان بكميات من القمح والزيت ، وبالتالي كان على الشيخ الخليفي وسواه استلام آبارهم وأراضيهم الزراعية ، وبعد ذلك سيعلنون ولاءهم للدولة العثمانية " أ . هــ  
وقال : " وكان قسم من قبائل الأحيوات الذين يتبعون شيخهم مسمح كثيراً ما يدعون إلى الثورة على الأتراك ، ويوجّهون ولائهم إلى الحكومة المصرية ، مقابل المنح والأعطيات التي تقدّم لهم ، قبيل ترسيم الحدود بين مصر والحجاز . فقد كانت الحكومة المصرية ترسل جنوداً من الأحيوات ، يستطلعون الأمر على الحدود ، وأوضاع الناس ، ومدى ولائهم للحكومة المصرية " أ . هــ
 
وخلاصة ما ذكره الدكتور أصلان أنّ هذه القبيلة رغم تبعيتها لمصر وخلافها مع العثمانيّين لكنّ هذا كلّه كان ضمن إطار الدولة العثمانية التي كانت ولاية مصر إحدى ولاياتها ، وحينما أراد الإنجليز سلخ منطقة العقبة عن العثمانيّين وضمّها إلى مصر فض هذا القسم من القبيلة تبعيّة العقبة لمصر انفصالها عن الدولة العليّة العثمانية .
وقد أثار هذا حنق الإنجليز إلى درجة الإيعاز باحتلال وادي عربة والاستيلاء على آبار البحير ( تُرجم اسمها خطأ إلى بيور ، وبيار ! ) كما يتّضح من النصّ التالي :
4ــ اقترح فندلي القائم بأعمال كرومر في مصر إبلاغ السلطان العثماني بأن مصر ترغب في إدارة أراضيها التي تقررت لها عام 1892 في سلام ، وأنه إذا ما هدّدت المراكز المصرية فإن الحكومة المصرية سوف تضطر إلى طلب المعونة من الحكومة البريطانية .
أما من الناحية العسكرية فقد طالب بإصدار الأوامر إلى البارجة البريطانية ( ديانا Diana ) الموجودة وقتذاك في بور سودان بالتقدم إلى العقبة .
كما أرسل التعليمات الى براملي وسعد بك رفعت يطلب منهما في حالة حدوث هجوم تركي عليهما أن يبادرا فيحتلا المراكز الآتية :
1ــ آبار بيور ، الواقعة على رأس خليج العقبة والتي يمتلكها الأعراب المصريون .
2ــ نقب العقبة ، وهو مركز الاقتراب الرئيسي من الساحل إلى الداخل .
3ــ طابا والتي سبقهما الأتراك إليها . ولكن نبه عليهما في نفس الوقت بتجنب إثارة العداوات ما أمكن .
وأصبح واضحا أنه لم يعد ممكنا حل المسألة محليا مما دعا الى ابلاغ براملي ورفعت أن المفاوضات ستبدأ في هذا الشأن بين القاهرة ولندن واستنبول بهدف الوصول إلى حل مناسب  .

وجاء في مذكرة لفندلي : " وفي يوم 22  يناير أرسلت إدارة المخابرات ، بعد موافقتي ، بتعليماتها للمستر براملي تقترح أن يعيّن مراكز الحدود بـ :
1ــ بيور : وهى آبار عند رأس الخليج يمتلكها البدو المصريون (۲۰ جندي وضابط ) .
2ــ نقب العقبة : مركز يتحكم في الطريق من الساحل إلى الداخل ( 10 رجال ) .
3ــ طابا : التي تتحكم في الطريق على طول الساحل .
" وسوف يمكن احتلال تلك المراكز من استمرار وضع العقبة تحت المراقبة ( وبها 1200 تركي )، وتسد الطريق بين الأراضي المصرية والتركية ، وسوف تمنع أية قوة من التغلغل داخل الهضبة . وصدرت التعليمات إلى المستر براملي باحتلال تلك المراكز بمنتهى الحرص والحذر ، وإذا ما تم احتلالها فلا يتراجع عنها إلا اذا أجبر على ذلك بالقوة " أ . هــ
وبالإضافة إلى امتلاك قبيلة الأحيوات لآبار البحير على رأس الخليج فإنهم يمتلكون جزءاً كبيراً من وادي عربة ، وعليه فلا بدّ أن تكون ديار هذه القبيلة جزءاً من حدود مصر ، وقد ذكر نعوم بك أثناء هذه المناقشات ( أن نصف خليج العقبة ونصف وادي عربة تابع لمصر ، بدليل أنَّ مصر تدفع عوائد الصرّة كلّ عام إلى الشيخ مسمح والشيخ سليمان خليفي القاطنين في غديان ) .
 
وجاء فيما كتبه ايرل كرومر إلى السير إدوارد جراي من القاهرة بتاريخ 21 / 5 / 1906 م : " ... وفي منتصف مارس كتب لي المستر براملي تقريراً بأن شيخين بدويين يدّعيان مسمح الكبيش وسليمان الخليفي ، والتي عاشت قبائلهما منذ مدّة طويلة تحت الإدارة المصرية ، كما كانا يتلقيان معونة سنوية من الحكومة المصرية ، قد تلقيا الرشاوى من رشدي باشا ممّا دعاها إلى الانتقال للأراضي التركية وهما في حدّ ذاتهما ليسا خسارة تذكر ، ولكني أشير للأمر لأن عملهما هذا قد يستغله الأتراك أثناء بحث مسألة التخوم القبلية " أ . هــ
 
غير أنّ هذا كلّه لم يغيّر من موقف القبيلة تجاه بقاء منطقتها ضمن إدارة العقبة التي تتبع للدولة العلية العثمانية ، وأكّد قومندان العقبة رشدي باشا في كتابه على أن ما يدعيه براملي من أن أراضي مصر تمتد حتى وادي عربة ، لا أساس له من الصحّة ويقرّر أن قسما من قبيلة اللحيوات يعيش بجوار غضيان في وادي عربة ، كان يتلقى عوائد الصرّة المخصّصة لتأمين سلامة المحمل من مصر ، عندما كانت العقبة تحت الإدارة المصرية ، وبعد أن أخذت الحكومة السنية العقبة ، لم يقطع المصريون هذه العوائد . وكان يستفيد منها مشايخ العريان القاطنين في هذه النواحي ، أمثال الشيخ مسمح والشيخ سليمان خليفي . وللقضاء على دعوى ہراملي في وادي عربة قامت الدولة العليّة بصرف النقود لمشايخ العربان في هذه المنطقة بدلاً من مصر ، كما أهدتهم سيوفاً تذكاريّة لتأليف قلوبهم " أ . هــ  

وقال الدكتور مأمون أصلان  : " عند محاولات الدولة العثمانية احتلال هذه المناطق عام 1892 م ، سئل شيخ عربان المنطقة شيخ العرب الخليفي عمّا إذا كان يريد الاستمرار في أخذ مرتب من مصر فاجاب : " إني كنت آخذ الماهيّة من مصر لأنّ أبي لم يكن موجوداً وحيث أنّ أبي وجد فإنّي استغني عن الماهيّة " ، ويعني بوالده الدولة العلية " أ . هــ
 

وقد تمّ الفصل في النزاع المعروف بمسألة العقبة ومسالة طابا بوضع الحدود بين الدولة العلية العثمانية  ومصر بخطّ يبدا من رفح وينتهي بجوار طابا ، وقد أبقى هذا التحديد ديار قبيلة الأحيوات التي كانت تتبع إدارة العقبة ضمن إدارة العقبة ، وهو الموقف الذي ثبت عليه شيوخ القبيلة إلى جانب رشدي باشا قائد العقبة ومن معه من القادة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق