تهتم هذه المدونة وتعنى بتاريخ وتراث وأعلام العقبة وجوارها

الأربعاء، 13 يونيو 2018

حسام الدين لؤلؤ البطل الذي حرّر أيلة ( العقبة ) وطهّر بلاد الحجاز من الصليبيّين


حسام الدين لؤلؤ بطلٌ من أبطال الجهاد في عهد الحروب الصليبيّة . كانت له صولات وجولات في ميادين الجهاد في البحر الأبيض المتوسّط ، والبحر الأحمر . وممّا يؤسف له أنّني لم أجد له ترجمة تفيه حقّه وهو الذي قال فيه السلطان الناصر صلاح الدين الأيّوبي : " الشهم الْمُخْتَار ، وَاللَّيْث المغوار ، والفارس الكرّار والخضرم التيّار ، والخضم الزخّار ، والضيغم الزآر ، وَهُوَ الْحَاجِب حسام الدّين لُؤْلُؤ فأحيا بِهِ السّنة الْقَدِيمَة ، والنصرة الْكَرِيمَة ، فِي القَوْل السَّابِق ، بِالْفِعْلِ الصَّادِق ...
ايش مَا شِئْتُم فَقولُوا ... إِنَّمَا الْفَتْح للولو ...

وقال : " كَانَ الْحَاجِب لُؤْلُؤ فِيهَا إِلَّا سَهْما أصَاب وَحمد مسدّده ، وسيفا قطع وشكر مجرّده ، ورسولا عَلَيْهِ الْبَلَاغ ، وَإِن لم يجهل مَا أثرته يَده ، وَقد غبطناه بِأَجْر جهاده ونجح اجْتِهَاده . ركب السَّبِيلَيْنِ برّاً وبحراً ، وامتطى السَّابِقين مركباً وظهراً ، وخطا فأوسع الخطو ، وغزا فأنجح الْغَزْو " أ . هــ ، وقال العماد الأصفهاني : " الحاجب لُؤْلُؤ مقدمها ومقدامها ، وضرغام غابها وهمامها " أ . هــ ، وقال ابن الأثير : " حُسَامُ الدِّينِ لُؤْلُؤٌ، وَهُوَ مُتَوَلِّي الْأُسْطُولَ بِدِيَارِ مِصْرَ ، وَكَانَ مُظَفَّرًا فِيهِ ، شُجَاعًا ، كَرِيمًا " أ . هــ ، وقال : " حُسَامُ الدِّينِ لُؤْلُؤٌ الْحَاجِبُ ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالشَّجَاعَةِ ، وَالشَّهَامَةِ ، وَيُمْنِ النَّقِيبَةِ " أ . هــ ، وقال النويري : " الأمير حسام الدّين لؤلؤ ، وكان شهماً شجاعاً ، مقداماً ميمون النقيبة ، خبيراً بقتال البحر " أ . هــ ، وقال ابن كثير : " الأمير لُؤْلُؤٌ أَحَدُ الْحُجَّابِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ ، كَانَ مِنْ أكابر الأمراء في أيام صلاح الدين ، وهو الّذي كان متسلّم الأسطول في البحر ، فَكَمْ مِنْ شُجَاعٍ قَدْ أُسِرَ ، وَكَمْ مِنْ مركب قد كسر ، وقد كان مع كثرة جهاده دار الصدقات ، كثير النفقات في كلّ يوم ، وقع غلاء بمصر فَتَصَدَّقَ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ رَغِيفٍ ، لِاثْنَيْ عَشَرَ ألف نفس " أ . هــ ، وقال ابن خلدون : " حسام الدين لؤلؤ الحاجب قائد الأساطيل بديار مصر " أ . هــ ، وقال السيوطي في ذكر الغلاء والقحط الذي عمّ مصر : " كان الأمير لؤلؤ أحد الحجاب بالديار المصرية  يتصدق في هذا الغلاء في كل يوم باثني عشر ألف رغيف على اثني عشر ألف فقير " أ . هــ .

توفّي رحمه الله تعالى عام 596 هــ قَالَ الْعِمَاد الأصفهاني : " وَفِي جُمَادَى الْآخِرَة من هَذِه السّنة توفّي يَعْنِي بِمصْر الْحَاجِب لُؤْلُؤ ، وَكَانَ فِي الْأَيَّام الصلاحية أَشْجَع الشجعان ، وأفرس الفرسان ، وَله مقامات فِي الْغُزَاة ، ومواقف مَعَ العداة " أ . هــ
 
وكان كريماً سخيّاً محسناً إلى فقراء المسلمين . قَالَ الْعِمَاد الأصفهاني : " وَمن دَلَائِل سماحه مَا شاهدته بِالْقَاهِرَةِ فِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين من مبراته الظَّاهِرَة أَنّه لما حطَّ الْقَحْط رَحْله ، وَوصل الْمحل مَحَله ، وَتمّ الغلاء ، وَعم الْبلَاء ، ابتكر هَذَا الْحَاجِب الْكَبِير مكرمَة لم يسْبق إِلَيْهَا ، وَذَلِكَ أَنه كَانَ يخبز كل لَيْلَة اثْنَي عشر ألف رغيف ، فَإِذا أصبح جلس على بَاب الْموضع الَّذِي فِيهِ حشر الْفُقَرَاء ، ثمَّ يفتح من الْبَاب مِقْدَار مَا يخرج مِنْهُ وَاحِد بعد وَاحِد ، وَيعلم أَنّه غير عَائِد فَيتَنَاوَل كلّ مِنْهُم قرصه ، وَيرى ذَلِك من خيراته ، فرْصَة فَمَا يزَال قَاعِداً حَتَّى يفرق الألوف على الألوف ، وَكَانَ هَذَا دأبه فِي هَذَا الغلاء ، حَتَّى هَب رخاء الرخَاء ، فَحِينَئِذٍ تنوعت صدقاته واستغرقت بالصلات أوقاته ، وَكَانَ بهيُّ الشيب ، نقي الجيب ، قد جعل الله الْبركَة فِي عمره و، َخَصه مُدَّة حَيَاته بإمرار أمره ، فأنجده فِي أَوَان ضعفه بِتَضْعِيف برّه ، وَلَا شكّ أَنّه من الْأَوْلِيَاء الأبدال ، وَالصَّالِحِينَ الصَّالِحِي الْأَعْمَال " أ . هــ
وذكره شيخ الإسلام الذهبي ذكراً جميلاً طيّباً فقال : " لُؤْلُؤٌ العَادِلِيُّ الحَاجِبُ ، مِنْ أَبْطَالِ الإِسْلاَمِ ، وَهُوَ كَانَ المَنْدُوْبُ لِحَرْبِ فِرنج الكَرَك الَّذِيْنَ سَارُوا لأَخْذِ طيبَة ، أَوْ فِرنج سِوَاهُم سَارُوا فِي البَحْر المَالح ، فَلَمْ يَسِرْ لُؤْلُؤ إِلاَّ وَمَعَهُ قُيُود بَعْددهُم ، فَأَدْرَكهُم عِنْد الْفَحْلَتَيْنِ ، فَأَحَاط بِهِم ، فَسلّمُوا نُفُوْسهُم ، فَقيّدهُم ، وَكَانُوا أَكْثَر مِنْ ثَلاَث مائَة مقَاتل ، وَأَقْبَلَ بِهِم إِلَى القَاهِرَة ، فَكَانَ يَوْماً مَشْهُوْداً " ، وقال : " لؤلؤ الحاجب العادليّ من كبار الدّولة . وله مواقف مشهورة بالسّواحل . وكان مقدَّم الغُزاة حين توجّهوا إِلَى العدوّ الّذين قصدوا الحجاز فِي البحر المالح بعدَّة مراكب وشوكة ، فأحاطوا بهم ، واستولوا عليهم بأسرهم . وكانت غزوة عظيمة القدر ، وقدِموا بالأَسرى إِلَى القاهرة ، وكان يوما مشهوداً " ، وقال : " ولمّا كان صلاح الدّين على حَرّان توجّه فرنج الكَرَك والشَّوْبك لينبشوا الحُجرة النّبويّة ، وينقلوه إليهم ، ويأخذوا من المسلمين جُعْلًا على زيارته ، فقام صلاح الدّين لذلك وقعد ، ولم يمكنه أن يتزحزح من مكانه ، فأرسل إِلَى سيف الدّولة ابن مُنقذ نائبة بمصر أنْ جَهِّزْ لؤلؤ الحاجب . فكلّمه فِي ذلك فقال : حسبك ، كم عددهم ؟ قال : ثلاثمائة ونيّف كلّهم أبطال .
فأخذ قيوداً بعددهم ، وكان معهم طائفة من مرتدَّة العرب ، ولم يبق بينهم وبين المدينة إلّا مسافة يوم ، فتداركهم وبذل الأموال ، فمالت إليه العرب للذهب ، واعتصم الفرنج بجبلٍ عالٍ ، فصعد إليهم بنفسه راجلاً فِي
تسعة أنفُس ، فخارت قوى الملاعين بأمرِ اللَّه تعالى ، وقويت نفسه باللَّه ، فسلّموا أنفسهم ، فصفّدهم وقدِم بهم القاهرة . وتولّى قتْلهم الفقهاء ، والصّالحون ، والصُّوفيَّة " ، وقال : " وَقِيْلَ : إِنَّ الملاعِين التجأوا مِنْهُ إِلَى جبل ، فَترَجَّل ، وَصعد إِلَيْهِم فِي تِسْعَة أَجنَاد ، فَأَلقَى فِي قُلُوْبهم الرّعب ، وَطَلَبُوا مِنْهُ الأَمَان ، وَقُتلُوا بِمِصْرَ ، تَولَّى قتلهُم العُلَمَاء وَالصَّالِحُوْنَ " ، وقال : " وَكَانَ شَيْخاً أَرمنِيّاً ، مِنْ غلمَان العَاضد ، فَخدم مَعَ صَلاَح الدِّيْنِ ، وَعُرف بِالشَّجَاعَة وَالإِقدَام ، وَفِي آخِرِ أَيَّامه أَقْبَل عَلَى الخَيْر وَالإِنفَاق فِي زَمَنِ قَحط مِصْر " ،
وقال : " قال الموفّق عَبْد اللّطيف : كان شيخاً أرمنيّا فِي الأصل ، من أجناد القصر ، وخدم مع صلاح الدّين مقدّما للأسطول . وكان حيثما توجّه فتح وانتصر وغنم . أدركتُه وقد ترك الخدمة . وَكَانَ يَتَصَدَّق فِي كُلِّ يَوْم بِاثْنَيْ عشرَ أَلف رَغِيْف مَعَ عِدَّة قُدُور مِنَ الطَّعَام .
وكان يُضعّف ذلك فِي رمضان ، ويضع ثلاثة مراكب ، كلّ مركب طوله عشرون ذراعا مملوءة طعاماً ، ويدخل الفقراء أفواجاً ، وهو مشدود الوسط ، قائم بنفسه ، وبيده مغرفة ، وَفِي الأخرى جرَّة سَمْن ، وهو يُصْلح صفوف الفُقراء ، ويقرّب إليهم الطّعام ، ويبدأ بالرجال ، ثُمَّ بالنّساء ، ثُمَّ بالصّبيان . ومع كَثرتهم لا يزدحمون لِعلمهم أنّ المعروف يعمّهم .
فإذا فرغوا بَسَط سِماطًا للأغنياء يعجز الملوك عن مثله " ، وقال : " تُوُفِّيَ لُؤْلُؤ رَحِمَهُ الله بِمِصْرَ ، فِي صَفَرٍ  ، سَنَة ثَمَانٍ وَتِسْعِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ " أ . هــ
ومن مآثره في الفسطاط ما ذكره ياقوت الحموي فقال : " في سنة 594 بنى الحاجب لؤلؤ العادلي، رحمه الله تعالى ، في رحبة الاندلس بستاناً وحوضاً ومقعداً ، وجمع بين مصلّى الأندلس والرباط بحائط بينهما جعل موضعه دار بقر للساقية التي تستقي الماء الذي يجري إلى البستان " أ . هــ ، ونقله المقريزي


قلت : رحبة الأندلس محلة كبيرة كانت بالفسطاط في خطة المعافر .
كما أنشأ بئراً بجانب حوض بقصر بني كعب في القرافة في خطّة المعافر بالفسطاط .


وقد كتب الأستاذ أحمد أحمد بدوي المدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول مقالة عن حسام الدين لؤلؤ عام 1948 م بيّن فيها بعض مآثر هذا البطل المنسي ، وفيما يلي نصّ ما قاله بحرفه :

حسام الدين لؤلؤ
للأستاذ أحمد احمد بدوي

حسام الدين لؤلؤ من جند مصر في عصر الدولة الفاطمية ، أعجب صلاح الدين بشجاعته ، فأسند إليه قيادة الأسطول ، وكان السلطان قد عنى بأمر الأسطول ، وأفرد له ديواناً خاصاً ، وعين للإنفاق عليه موارد ثابتة ، فكان الاختيار موفقاً ، لأن حسام الدين كان شجاعاً خبيراً بالبحر والقتال فيه ، فسار النصر في ركابه ، وصاحب خطاه النجح والتوفيق ، وسجل له التاريخ معارك انتصر فيها على الفرنج عند ساحل الشام .
وكان صلاح الدين يرسل إليه كي يهاجم أسطول الفرنج حيناً ، أو يحاول بينه وبين إيصال المدد إلى من بالشام من الصليبيين حيناً آخر ، أو ليضطر جيشهم إلى الدفاع عن الساحل بينما صلاح الدين يهاجم جيوش الفرنج بالبرّ ، فيلزم عدوه أن يقسم قوته ، ويصد هجومين في وقت واحد معاً ، وهكذا كان الأسطول وعلى رأسه لؤلؤ إحدى يدي صلاح الدين وجناح جيشه .
واشتهر لؤلؤ في معركة عكا ، وساهم فيها بالنصيب الأوفى، فعندما حاصرها العدو سنة 585 أرسل صلاح الدين في طلب الأسطول فقدمت منه خمسون قطعة على رأسها البطل البحري ، فانقض على أسطول الصليبيين وبدّده ، وظفر ببطستين كبيرتين بما فيهما من الأموال والرجال والقلال ، وقويت نفوس أهل المدينة بقدوم الأسطول واستظهروا برجاله على العدو ، وكانوا زهاء عشرة آلاف ، وظل الأسطول يكافح في المعركة ، يحارب حيناً ويجلب المسيرة والإمداد حيناً آخر .
وكان مما خلّد ذكر هذا القائد ما دار بينه وبين الصليبيين في البحر الأحمر سنة 578 ، ذلك أن صاحب الكرك ، وهو من ألد أعداء المسلمين ، وأشدهم نكاية فيهم ، فكر في مهاجمة المسلمين في البحر الأحمر ، ظناً منه أنهم غير مستعدين فيه ، وتأديباً لحامية أيلة التي كانت تغير عليه ، ولا سبيل له عليها ، لأنها تقيم بقلعة في جزيرة وسط البحر ، فبنى سفناً ، ونقل أخشابها على الجمال إلى الساحل ، وجمعها في أسرع وقت ، وشحنها بالمحاربين وآلات القتال ، وسارت السفن وقد اقترنت فرقتين : أقلت إحداهما على حصن أيلة تحصره وتمنع أهله ورود الماء ، فأصاب حاميته شدّة وضيق ، ومضت الثانية ، وهي فرقة فدائية ، إلى عيذاب فأحرقوا في البحر ستة عشر مركباً ، وأخذوا في البرّ قافلة كبيرة كانت قادمة من قوص إلى عيذاب وقتلوا جميع أفرادها ، واستولوا على مركبين كانا مقبلين بتجار من اليمن ، وأحرقوا أطعمة كثيرة على الساحل كانت معدة ليرة مكة والمدينة ، وأحدثوا حوادث شنيعة لم يسمع بمثلها في الإسلام ، فقد فاجئوا الناس على حين غفلة فإنهم لم يعهدوا بهذا البحر فرنجياً لا تاجراً ولا محارباً . وأرادت الحملة أن تقطع طريق الحج ، فقد كانت الغزوة في شهر شوال سنة 578 ، وأن تمضي إلى المدينة المنورة لتنبش قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتنقل جسده الشريف إلى بلادها ، وتدفنه هناك ، ولا تمكن المسلمين من زيارته إلا بجعل . فسارت الفرقة إلى بلاد الحجاز ، وجاء الخبر إلى مصر ، وبها الملك العادل نائباً عن أخيه صلاح الدين ، فأمر قائد الأسطول وهو الحاجب لؤلؤ أن تبع هؤلاء الغزاة ، فأخذ الأسطول وانقض على محاصري أيلة انقضاض العقاب وقاتلتهم فقتل بعضهم ، وأسر الباقي .
ثم مضى إلى عيذاب وأخذ يتتبع مراكب العدو حتى عثر عليها بعد أيام ، فأوقع بها ، وأطلق المأسورين من التجار فيها ، ورد عليهم ما أخذ منهم .
ورأى العدو قد أوغلوا في طريق المدينة حتى لم يبق بينهم وبينها إلا مسافة يوم ، فمضى خلفهم على حيل أخذها من الأعراب وحاصرهم هناك في شعب لا ماء فيه ، حتى استسلموا ، فقتل أكثرهم وأرسل بعضهم إلى منى ليقتلوا بها عقوبة لمن رام إخافة حرم الله تعالى وحرم رسوله ، وعاد بالباقين إلى مصر .
فكان لدخولهم يوم مشهود ، وطيف بهم في القاهرة والإسكندرية ، ورآهم ابن جبير بالإسكندرية وقد تجمع الناس حولهم ، عندما أدخلوا البلد راكبين على الجمال  ، ووجوههم إلى أذنابها، وحولهم الطبول والأبواق .
وأرسل صلاح الدين إلى أخيه العادل يثني على أسير البحر ويغبطه ، ويأمل بقتل أسراه ، ويقول له على لسان القاضي الفاضل : . . . وقد غبطناه بأجر جهاده ، ونجح اجتهاده ، ركب السبيلين برّاً وبحراً ، وامتطى السابقين مركباً وظهراً ، وخطا فأوسع الخطو ، وغزا فانجح الغزو ، وحبذا العنان الذي في هذه الغزوة أطلق ، والمال الذي في هذه الكرّة أنفق ؛ وهؤلاء الأسارى فقد ظهروا على عورة الإسلام وكشفوها ، وتطرّقوا بلاد القبلة وتطوّفوها . . . ولا بدَّ من تطهير الأرض من أرجاسهم ، والهواء من أنفاسهم ، بحيث لا يعود منهم بخبر يدل على عورات المسلمين .
وأرسل صلاح الدين بنبأ هذا النصر إلى بغداد ، وانتهى الأمر بقتل الأسرى ، وتولى قتلهم الصوفية والفقهاء وأرباب الديانة .
خلّدت هذه المعركة ذكرى بطلها ، وأقبل الشعراء يشيدون بذكره ويمجدون جهاده ، فأنشأ أبو الحسن بن الذروي أشعاراً كثيرة يمدحه بها ، منها قوله يصف أسرى المعركة :
مر يوم من الزمان عجيــــــب ... كاد يبدي فيه السرور الجماد
إذا أتى الحاجب الأجل بأسرى ... قرنتهم في طيها الأصـــــــفاد
بجــــــــمال كأنهـــنَّ جـــــبال ... وعلوج كأنــــــــهم أطـــــــواد
قلت بعد التفكيـــــــر لما تبدى ... هكذا هكذا يكـــــــون الجــهاد
حبذا لؤلؤ يصيد الأعـــــــادي ... وســـــــواه من اللآلئ يصــاد

وقوله يصف هذا الجهاد :

يا حاجب المجد الذي ماله ..... ليس عليه في الندى حجبه
ومن دعوه لؤلؤاً عندمــا ..... صحت من البحر له نســـبه
لله ما تعمل من صالـــــح ..... فيه وما تظهر من حســــبه
كفيت أهل الحرمين العدا ..... وذدت عن أحمد والكعبـــــه

كما قال فيه الرضي بن أبي حصينة المصري يخاطب الفرنج :

عدوكم لؤلؤ والبحر مسكنـــــــه ..... والدر في البحر لا يخشى من الغير
فأمر حسامك أن يحظى بنحرهم ..... فالدر مذ كان منسوب إلى النـــــحر

ويظهر أن صلاح الدين والعادل قد أغرقا العطاء على القائد المقدام فأثرى ثراء ضخماً .
غير أنه لم يشأ أن يستأثر وحده بهذا الثراء ، فإنّه بعد أن زوّج بناته ، وكنَّ أربعاً وجهّزهن بجهاز كاف ، وأعطى ابنيه ما يكفيهما ، شرع يتصدق بما يبقى معه على الفقراء ، قال العماد الكاتب : ومن دلائل سماحه ما شاهدته بالقاهرة ، في سنة إحدى وتسعين من مبرّاته الظاهرة ، إنّه لما حطَّ القحط رحله . . . وتمَّ الغلا ، وعمَّ البلاد ، ابتكر هذا الحاجب الكبير مكرمة لم يسبق إليها ، وبذلك أنه كان يخبز كلَّ ليلة أثنى عشر ألف رغيف ، فإذا أصبح جلس على باب الموضع الذي فيه حشر الفقراء . . . فما يزال قاعداً حتى يفرق الألوف على الألوف .
وكان هذا دأبه في هذا الغلاء ، حتى هبَّ رخاء الرخاء ، فحينئذ تنوعت صدقاته ، واستغرقت بالصلاة أوقاته ؛ وكان بهي الشيب ، نقي الحبيب ، قد جعل الله البركة في عمره ، وخصّه مدة حياته بإمرار أمره ، فأنجده في أوان ضعفه بتضعيف برّه .
وكان هذا الكرم مثار إعجاب الشعراء كذلك فمدحه ابن الذروي بقوله :

لئن كنت من ذا البحر يا لؤلؤ العلا ... نتجت، فإن الجود فيك وفيه
وإن لم تكن منه لأجــــل مذاقــــــه ... فإنك من بحر السماح أخيـه

وفي اليوم التاسع من جمادى الآخرة سنة 596 وارت مصر التراب بطلاً من أبطالها ، وقائداً من أبرع قوّادها ، قال عنه العماد وهو يؤرخ وفاته : كان في الأيام الصلاحية أشجع الشجعان ، وأفرس الفرسان ، وله مقامات في الغزاة ، ومواقف مع العداة .
حلوان الحمامات
أحمد أحمد بدوي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق