في عام 1041 مرّ الرحّالة السراج أبو عبد الله محمد بن أحمد القيسي المعروف بابن مليح بدرب الحاج المصري قاصداً الحجّ إلى بيت الله الحرام في مكّة المكرّمة فوصف الدرب ومواضعه ومن بينها مدينة العقبة التي ذكر بأنّها كانت قصبة يجتمع فيها التجّار من بلاد الشام والديار المصرية لعرض بضائعهم على الحجيج فتقوم هناك سوق كبرى في موسم الحجّ في ذهابه وغيابه ، وأشار إلى خطورة العقبة لخطورة طريقها وأنّها هدف اللصوص بعد خروج الحجيج من المدينة ودخولهم في درب جبل العقبة غرب المدينة ، وفيما يلي نصّ ما قاله بحرفه :
قال ابن مليح في ذكر درب الحاج عند وصوله لبلدة نخل في وسط سيناء : " ... ثم لقصبة النخيل ، في فضاء من الأرض متسع بنيت على مورد عذب ، ومنها مبدأ تيه بني إسرائيل ، ثمَّ لبير العلاية في وسط التيه ، ثمَّ لسطح العقبة الكبرى ، أرض بسيطة متسعة النواحي وهي التي تسمى عقبة أيلة ، ثمَّ لقصبتها وبها تلتقي الركبان من أرض الشام وغزة وغيرها ، ثمَّ لمورد بعرف بمويه المعز على شاطئ بحر سويس وبه نخيل إلا إنه خال من العمران ، ثمَّ لأم العظام صحراء ، ثمَّ لمقابر سيّدنا شعیب على نبيّنا وعليه أفضل الصلاة والسلام وفيه موضع تعبده ، وجب شربه ، وادٍ كثير النبات وأشجار الطرفة ، المتكاتفة ، قريب المياه العذبة جدّاً وبقربه ربوة ، يظهر منها نخيل مدين المذكورة في كتاب الله تعالى على يمين الطريق هكذا ذكر بعضهم لكن مدين المذكورة في كتاب الله تعالى وهي بناحية الشام على الأصح ، وذكر بعضهم أنه كان ينزل هذا المكان في بعض السنين دون بعض والله أعلم بصحة ذلك ، ثمَّ لمورد بعرف بعيون القصب ، وفيها روضة قائمة ، ذكروا أنها لسيدي سلام ، يقصدها الزوار ، ثمَّ لقصبة المويلح على شاطئ البحر ثغر من الثغور ترسو به القوارب ….. " .
وقال في ذكر العقبة عند عودته في عام 1042 هــ : " ... ثمَّ لأم العظام ، ثمَّ لمويه المعيز ، ثمَّ وردنا العقبة الكبرى ولها قصبة على ساحل البحر وهي التي تسمى عقبة أيلة . يجتمع عندها الناس من الشام وغزة ، ومصر وغيرها للقاء الركبان ، والسؤال عن الاحباب والاخوان ،
أعارض ركب الحجاز لعلّي أسائله ….. متى عهده بأيّام جمــــع
واستملي حديث من ســـكن الخيــ ….. ف ولا تكتباه إلّا بدمــــع
إن فاتني أن أرى الديـــار بطرفي ….. فلعلّي أرى الديار بسمع
أعارض ركب الحجاز لعلّي أسائله ….. متى عهده بأيّام جمــــع
واستملي حديث من ســـكن الخيــ ….. ف ولا تكتباه إلّا بدمــــع
إن فاتني أن أرى الديـــار بطرفي ….. فلعلّي أرى الديار بسمع
فالتقينا بها أهل غزّة ، في رفاهية وعزّة ، حملت من أنواع الفواكه ، وأصناف المطاعم متشابها وغير متشابه ، فبعنا وابتعنا ، وقام الشيخ النفاتي بأول ليلة حططنا هنالك ونادي بالمحلّة السعيدة ، إلّا أن المقام هنا عندنا بهذا المكان ثلاثة أيام مكيدة منه حفظه الله تعالى ، لأنَّ هذه العقبة محلّ اللصوص ، والتعرّض للركائب لنهب الأموال وقتل النفوس ، فبتنا ليلتنا هذه إلى عصر غدها ، فانتقلنا إلى شاطئ البحر بظهر العقبة ، فالتحق بنا صاحب العقبة مع جماعة من أشياخ العرب ، فقال : ما بالكم انتقلتم ، وبدالكم عما عزمتم ، فقال الشيخ : أردنا أن نتهيأ لقطع العقبة ، ومدافعة اللصوص ، والظلمة ، فأخرج حفظه الله خزانة البارود وأمر بتفريقه على الرماة في المحلة ، فتشجّع وشجّع ، وأظهر الشدّة وتورّع ، فرأي منهم الأعراب ما أفجعهم ، ورغبوا في صحبتنا حتى نخرج من بلدهم ، فأجابهم الشيخ إلى ذلك ، وارتحل من هنالك ، فكان أصحابنا هم ساقة الركب لأنه مظنّة الأخذ والنهب ، وأهل تونس أمامه ، لأنه مظنّة السلامة ، فشددنا الأزر ، فقطعنا والحمد لله تلك العقبة ، ولم نر من فضل الله نكبة ، فحطَّ الركب في فضاء متّسع وخلع على الأعراب ما رآه من الخلع فعادوا بسلام ، وسار الركب أمام ، لبير العلاية ، ثمَّ لقصبة النخيل ، فتلقانا بها أهل مصر على الهيئة الأولى ثمَّ لوادي الخرّوبة ، ثمَّ لوادي الرمل ، ثمَّ لقصبة عجرود ، وقد قاربنا الديار المصرية وهبّت علينا نسماتها الذكية ، فوجدنا بأحواز القصبة وفداً عظيماً حملت من المطاعم والمشارب ما تشتهيه الأنفس ، ولا تحصره الأقلام في الطروس ، فأخذت الناس مشتهاها ، وبلغت من الأقوات مناها ، ثمَّ للدار الحمرا …. " أ . هــ
قلت : وصف ابن مليح للعقبة بأنّها قصبة يعني في لغة أهل المغرب القلعة ، كما أنّها تعني في اللغة المدينة الكبرى ، أي أنّ العقبة كانت في القرن الحادي عشر في وقت زيارة ابن مليح لها مدينة عامرة ذات قلعة . قال ياقوت الحموي : " قصبة القرية والقصر: وسطه ، وقصبة الكورة : مدينتها العظمى " أ . هــ ، وقال المقدسي : " اعلم أنّا جعلنا الأمصار كالملوك والقصبات كالحُجّاب والمدن كالجند والقرى كالِرجّالة " ، وقال : " لا بد لكل إقليم من كورة ثم لكل كورة من قصبة ثم لكل قصبة من مدن " أ . هــ ، وقال ابن فضل الله العمري في ذكر الأندلس : " القصبة الحمراء ومعنى القصبة عندهم القلعة " أ . هــ ، وقال ابن منظور : " القَصَبةُ : جَوْفُ القَصْرِ ؛ وَقِيلَ : القَصْرُ . وقَصَبةُ البَلد : مَدينَتُه ؛ وَقِيلَ: مُعْظَمُه . وقَصَبة السَّوادِ : مَدينتُها. والقَصَبَةُ: جَوْفُ الحِصْن ، يُبْنى فِيهِ بناءٌ ، هُوَ أَوسَطُه . وقَصَبةُ الْبِلَادِ : مَدينَتُها . والقَصَبة : القَرية. وقَصَبةُ القَرية : وسَطُها " أ . هــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق