تهتم هذه المدونة وتعنى بتاريخ وتراث وأعلام العقبة وجوارها

الاثنين، 21 مايو 2018

عمر بن الخطّاب في أيلة ( العقبة ) : نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب بغير الله بديلاً


في عام 16 للهجرة وعلى قول في عام 17 وفي قولٍ ثالث عام 18 للهجرة استخلف عمر بن الخطّاب رضي الله عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المدينة وسار بجمهرة من الصحابة الكرام رضي الله وفيهم العبّاس بن عبد المطّلب إلى بلاد الشام لتفقّد أحوالها وتنظيم شؤونها ، وسار من المدينة على طريق أيلة قاصداً الجابية في حوران من بلاد الشام ، ثمّ المسير إلى بيت المقدس .
وصل الخليفة الراشد إلى أيلة ومكث فيها بعض الوقت وهنا قال عبارته الشهيرة : ( نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب بغير الله بديلاً ) .
في هذه السطور نسلّط الضوء على قدوم عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إلى أيلة ( العقبة ) ونزوله فيها فنقول وبالله تعالى التوفيق : 

1ــ قال أبو عثمان وأبو حارثة والربيع : " خرج عمر وخلف عليا على المدينة ، وخرج معه بالصحابة وأغذوا السير واتخذ أيلة طريقا ، حتى إذا دنا منها تنحى عن الطريق ، واتبعه غلامه ، فنزل فبال ، ثم عاد فركب بعير غلامه ، وعلى رحله فرو مقلوب ، وأعطى غلامه مركبه ، فلما تلقاه أوائل الناس ، قالوا : أين أمير المؤمنين ؟ قال : أمامكم ــ  يعني نفسه ــ وذهبوا هم إلى أمامهم ، فجازوه حتى انتهى هو إلي أيلة فنزلها وقيل للمتلقين : قد دخل أمير المؤمنين أيلة ونزلها ، فرجعوا إليه " أ . هــ
قلت : غلام عمر هو أسلم ، ولمّا اقترب عمر بن الخطّاب من أيلة تنحّى عن الطريق لقضاء حاجته ، ثمّ ركب بعير غلامه وعلى رحله فروٌ مقلوب . 
2ــ قال هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : " لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَيْلَةَ ، وَمَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ دَفَعَ قَمِيصًا لَهُ كَرَابِيسُ قَدِ انْجَابَ مُؤَخِّرُهُ عَنْ قَعْدَتِهِ مِنْ طُولِ السَّيْرِ إِلَى الأُسْقُفِّ ، وقال : اغسل هذا وارقعه ، فَانْطَلَقَ الأُسْقُفُّ بِالْقَمِيصِ ، وَرَقَّعَهُ، وَخَاطَ لَهُ آخَرُ مِثْلَهُ ، فَرَاحَ بِهِ إِلَى عُمَرَ ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالَ الأُسْقُفُّ : أَمَّا هَذَا فَقَمِيصُكَ قَدْ غَسَلْتُهُ وَرَقَّعْتُهُ ، وَأَمَّا هَذَا فَكِسْوَةٌ لَكَ مِنِّي . فَنَظَرَ إِلَيْهِ عُمَرُ وَمَسَحَهُ ، ثُمَّ لَبِسَ قَمِيصَه ، وَرَدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَمِيصَ ، وَقَالَ  : هَذَا أَنْشَفُهُمَا لِلْعَرَقِ " أ . هــ

قلت : لمّا دخل عمر إلى أيلة دفع قميصه ذو الكرابيس إلى أسقف أيلة لغسله ورقعه .

وفي رواية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عامل لعمر كان على أذرعات قال : " قدم علينا عمر بن الخطاب وإذا عليه قميص من كرابيس فأعطانيه فقال : اغسله وارقعه ، قال : فغسلته ورقعته ، ثمّ قطعت عليه قميصاً فأتيته بهما فقلت : هذا قميصك ، وهذا قميص قطعته لتلبسه فمسّه فوجده ليّنا فقال : لا حاجة لنا فيه . هذا أنشف للعرق منه " " أ . هــ

قلت : الصحيح انّ هذا كان في أيلة كما رواه هشام بن عروة عن أبيه في الحديث السابق وهو ما جاء في روايات أبي عثمان وأبي حارثة والربيع واسلم مولى عمر بن الخطّاب كما سيأتي .

وهذه روايات أسلم مولى عمر بن الخطّاب مرافقه في هذه الرحلة :

1ــ عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : " لمّا دنا عمر من الشام وأخذ طريق أيلة تنحى معه غلامه فلمّا أراد الركوب عمد إلى مركب غلامه وأن عليه لفرو مقلوب فركب وحول غلامه على رحل نفسه وهو على جمل أحمر وعمر يومئذ متزر بإزار ومرتد بعمامة على حقبيه تحته فرو ، وأن العباس لبين يديه على عتيق يتقذى به ، وكان رجلاً جميلاً ، فجعلت البطارقة يسلّمون عليه ، ويشير أني لست به ، وأنه ذاك فيسلمون عليه ، ويرجعون معه حتى انتهى إلى أيلة والجابية " أ . هــ

قلت : حينما تنحّى عمر عمد إلى مركب غلامه وعليه فروٌ مقلوب ، وكان على جمل أحمر ، وكان العبّاس رضي الله عنه عمّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسير بين يديه .، فساروا إلى أن التقوا البطارقة .

2ــ قال القاسم بن محمد : سمعت أسلم مولى عمر رضي الله عنه يقول : " خرجت مع عمر رضي الله عنه وهو يريد الشام حتى إذا دنا أناخ فذهب لحاجة له ، قال أسلم : فطرحت فروتي بين شعبتي رحلي ، فلما فرغ عمر رضي الله عنه عمد إلى بعيري فركبه ، وركب أسلم بعير عمر رضي الله عنه فخرجا يسيران حتى لقيهما أهل الأرض ، قال : فلما دنوا أشرت لهم إلى أمير المؤمنين ، فجعلوا يتحدثون بينهم ، فقال عمر رضي الله عنه : تطمح أبصارهم إلى مراكب من لا خلاق له " أ . هــ

قلت : لمّا دنا عمر أناخ الراحلة لقضاء الحاجة ، ولمّا جاء ركب بعير غلامه ، وسارا حتى لقيهما أهل الأرض .

3ــ قال هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه قال : " خرجت مع عمر رضي الله عنه إلى الشام حتى إذا كنا ببعض الطريق نزل للصبح ، ونزلت معه ، فذهب لحاجته ــ وكان إذا ذهب أبعد ــ ثم جاء فناولته إداوة من ماء فتوضأ ، ثم صلّى ، فلما أردنا أن نركب قال : هل لك أن تركب جملي وأركب جملك يا أبا خالد ؟ ولكنه جمل يقبض ، قال ، قلت : وما يقبض ؟ قال : يضرب بيديه فلا ينشب ــ أي ينقب ــ ، وهو جمل رجل أقث لم يثقل حواياه الشحم . قال : ثم لقينا أهل الأرض يشتدّون ، قالوا : أين أمير المؤمنين ؟ قال : أمامكم ، قال : فانصرفوا . قال : ما إخالنا إلا قد كربناهم ، نادهم ، فناديتهم فرجعوا ، فقلت : هذا أمير المؤمنين ، فكأنما ضربت وجوههم فانصرفوا ، فقال : هل ترى ما أرى يا أبا خالد ؟ فقلت : وما أرى يا أمير المؤمنين ؟ فقال : لم ير هؤلاء على صاحبك ثياب قوم غضب الله عليهم فيها ، ثم تزدرينا أعينهم ، قال : فلقينا الناس فقيل له : يا أمير المؤمنين : إنك تقدم على أهل الأرض وعلى قوم حديثي عهد بكفر ، فلو ركبت دابة غير دابتك هذه ؟ ! قال : فأتي ببرذون فركبه ، فجعل يتبختر به ، فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبخترا ، فنزل عنه وقال : ما حملتموني إلا على شيطان ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي ، ايتوني بقعودي فركبه ... " أ . هــ

قلت : حينما نزل عمر لقضاء الحاجة كان ذلك استعداداً لصلاة الصبح ، فلمّا جاء توضأ ، ثمّ صلّى ثمّ ركب بعير مولاه أسلم ، فلقيه أهل الأرض ، فنصحه الناس بركوب دابّة غير البعير فركب البردون ثم تركه وركب بعيره .

3ــ قال مالك بن أنس ، عن زيد ابن أسلم عن أبيه قال : " خرجت مع عمر رضي الله عنه إلى الشام ، فلما كنا في أدنى الريف ودنونا منه ، ذهب عمر رضي الله عنه لحاجته ــ وكان إذا ذهب لحاجته أبعد ــ فجاء وقد قلبت فروتي فألقيتها بين شعبتي الرحل ، فركب بعيري وركبت بعيره ، فلما خطا به البعير قال : يا أسلم بجملك هذا قباض ، قلت : لا أدري ، قال : بلى ، ولا يصلحه إلا رجل لم يثقل حواياه الشحم ، فسرنا حتى لقينا الناس ، فجعلوا يسألون عنه فأقول : أمامكم فيبعدون على وجوههم ، فقال لي : يا أسلم قد أكثرت فأخبرهم ، فقلت : هذا فاطلع أناس فقالوا : أمير المؤمنين ؟ فقلت : هذا . فجعلوا يتواطؤون فيما بينهم ، فقال : إن هؤلاء لا يرون علينا برد قوم غضب الله عليهم فيها ، وأعينهم تزدرينا ، ثم سار حتى لقيه عمرو بن العاص وأمراء الاجناد ، فتحدث معهم ، ثم قال عمرو : يا أمير المؤمنين ، إنك تقدم على قوم حديثي عهد بكفر ، قال : فمه ؟ قال : يؤتى بدابة فتركبها ، قال : ما شئتم ، قال : فأتي  ببرذون فركبه ، فجعل البرذون يحركه ، فجعل عمر رضي الله عنه يضربه ويضرب وجهه قلا يزيده إلا مشيا فقال سائس الدابة : ما ينقم أمير المؤمنين منه ؟ ثم نزل فقال : ما حملتموني إلا على شيطان ، وما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي قربوا بعيري ، فركبه ثم اعتزل الناس ، فسار .... " أ . هــ

قلت : هذه الرواية كسابقتها .

والحاصل من روايات أسلم انّ عمر لما دنا من الشام وأخذ طريق أيلة تنحّى ومعه مولاه أسلم لقضاء حاجته ، ثمّ توضّأ وصلّى الصبح ، ثمّ قال لأسلم : هل لك أن تركب بعيري وأركب بعيرك وكان أسلم قد طرح فروته بين شعبتي رحله ، فركب بعير اسلم ، وسارا ثمّ قال عمر  : يا أسلم بجملك هذا قباض ، قلت : لا أدري ، وما يقبض ؟ قال : بلى ، يضرب بيديه فلا ينشب ــ أي ينقب ــ ، وهو جمل رجل أقث لم يثقل حواياه الشحم .
قال : ثم لقينا أهل الأرض يشتدّون ، قالوا : أين أمير المؤمنين ؟ قال : أمامكم ، قال : فانصرفوا . قال : ما إخالنا إلا قد كربناهم ، نادهم ، فناديتهم فرجعوا ، فلما دنوا أشرت لهم إلى أمير المؤمنين ، فجعلوا يتحدثون بينهم ، وجعلوا يتواطؤون فيما بينهم .
فقلت : هذا أمير المؤمنين ، فكأنما ضربت وجوههم فانصرفوا ، فقال : هل ترى ما أرى يا أبا خالد ؟ فقلت : وما أرى يا أمير المؤمنين ؟ فقال : لم ير هؤلاء على صاحبك ثياب قوم غضب الله عليهم فيها ، ثم تزدرينا أعينهم ، تطمح أبصارهم إلى مراكب من لا خلاق له .
قال : فلقينا الناس ولقيه عمرو بن العاص وأمراء الاجناد ، فتحدث معهم ، ثم قال عمرو : يا أمير المؤمنين ، إنك تقدم على قوم حديثي عهد بكفر ، قال : فمه ؟ قال : يؤتى بدابة فتركبها ، قال : ما شئتم ، قال : فأتي  ببرذون فركبه ، فجعل البرذون يحركه ، فجعل عمر رضي الله عنه يضربه ويضرب وجهه قلا يزيده إلا مشيا فقال سائس الدابة : ما ينقم أمير المؤمنين منه ؟ ثم نزل فقال : ما حملتموني إلا على شيطان ، وما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي قربوا بعيري ، فركبه ثم اعتزل الناس ، فسار .... 


قلت : تفيدنا روايات أبي عثمان وأبي حارثة والربيع وأسلم وعروة بن الزبير أن كلّ ما سبق بيانه جرى في منطقة أيلة حيث توضّأ وصلّى ثمّ سار فالتقاه الناس ، ثمّ دخل المدينة والتقى البطارقة واسقف البلدة فطلب أن يغسلوا قميصه وأن يخيطوه ، ثمّ نصحوه بأن يركب دابّة غير البعير وممّن نصحه عمرو بن العاص 


وهذه روايات ابي الغالية :

1ــ قال عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي عن أبي الغالية الشامي من أهل دمشق : " إن عمر رضي الله عنه قدم عليهم الشام على جمل أورق بين عمودين ، تلوح صلعته في الشمس ، لا حقبة ولا خشبة ، تصطفق رجلاه ، ليس له ركابان ، وطاؤه فروة كبش كرمي ذات صوف ، هو وطاؤه إذا ركب ، وفراشه إذا نزل ، وحقيبة نمرة أو شملة محشوة ليفا هي وسادته إذا نزل وحقيبته إذا ركب ، قال له رأس القرية : أنت ملك العرب وهذه دابة لا تصلح لهذا البلد ، فأتي ببرذون فطرحت عليه قطيفة ، فركب بغير سرج فأهزته ، فقال : أمسك أمسك ، أدن جملي ، ما شعرت أن الناس يركبون الشياطين قبل يومي هذا ، فدعي بجمله فركبه " أ . هــ
تاريخ المدينة لابن شبة + الرقة ، ابن قدامة ، ص

قلت : تتّفق هذه الرواية مع روايات أسلم بأنّه عُرض على عمر بردون ليركبه بدلاً من بعيره .

2ــ عن أبي الغالية الشامي قال : " قدم عمر بن الخطاب الجابية على طريق إيلياء على جمل أورق ، تلوح صلعته للشمس ، ليس عليه قلنسوة ولا عمامة ، تصطفق رجلاه بين شعبتي الرحل بلا ركاب ، وطاؤه كساء انبجاني ذو صوف هو وطاؤه إذا ركب ، وفراشه إذا نزل ، حقيبته نمرة أو شملة محشوة ليفا ، هي حقيبته إذا ركب ووسادته إذا نزل وعليه قميص من كرابيس قد دسم وتخرق جنبه . فقال : ادعوا لي رأس القوم ، فدعوا له الجلومس ، فقال : اغسلوا قميصي وخيطوه وأعيروني ثوبا أو قميصا . فأتي بقميص كتان فقال : ما هذا ؟ قالوا : كتان. قال : وما الكتان ؟ فأخبروه فنزع قميصه فغسل ورقع وأتي به فنزع قميصهم ولبس قميصه . فقال له الجلومس : أنت ملك العرب وهذه بلاد لا تصلح بها الابل ، فلو لبست شيئا غير هذا وركبت برذونا لكان ذلك أعظم في أعين الروم . فقال : نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب بغير الله بديلاً . فأتي ببرذون فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل فركبه بها فقال : احبسوا احبسوا ، ما كنت أرى الناس يركبون الشيطان قبل هذا فأتي بجمله فركبه " أ . هــ 


قلت : تتّفق هذه الرواية مع سابقتها ، كما تتفق مع رواية عروة بن الزبير بأنّ قميص عمر بن الخطّاب ذي الكرابيس قد تخرّق فطلب من الجلومس  وهو رأس القوم وفي رواية عروة دفع قميصه إلى الأسقف ، فالجلومس هو رأس القوم وهو أسقف أيلة ، والجلومس هو عند الروم هو الحاكم أو الملك ، وقد غسلوا قميص عمر ورقعوه فقال له الجلومس أي رأس القوم وفي الرواية السابقة رأس القرية : أنت ملك العرب وهذه بلاد لا تصلح بها الابل ، فلو لبست شيئا غير هذا وركبت برذونا لكان ذلك أعظم في أعين الروم . فقال : نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب بغير الله بديلا . فأتي ببرذون فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل فركبه بها فأهزته ، فقال : أحبسوا أحبسوا ، أمسك أمسك ، أدن جملي ، ما كنت أرى الناس يركبون الشيطان قبل هذا فأتي بجمله فركبه . 
ويظهر أنّ الناس ومنهم عمرو بن العاص واسقف أيلة قد نصحوه بركوب البرذون فكان من أمره ما كان ، فركب بعيره وواصل مسيره .

وقال إسماعيل بن قيس : " لمّا قدم عمر الشام استقبله الناس وهو على بعيره فقالوا : يا أمير المؤمنين لو ركبت برذوناً يلقاك عظماء الناس ووجوههم ، فقال : لا اراكم ههنا إنّما الأمر من ههنا وأشار بيده إلى السماء . خلّوا جملي  " أ . هــ
وقال بشير بن عمرو : " أتي عمر رضي الله عنه ببرذون فركبه منطلقا إلى الشام ، فلما هزه خلجه فنزل عنه ، وقال قبح الله من عملك هذا " أ . هــ
وقال أنس رضي الله عنه : " ركب عمر رضي الله عنه برذونا فهزه فنزل عنه وقال : ما يصلح هذا إلا لصاحب يأتي عليه الغائط  " أ . هــ  


وبعد انتهاء رحلة عمر بن الخطّاب إلى الشام عاد إلى المدينة المنوّرة في شهر ذي الحجّة من عام 17 هــ

وقد صوّر الأستاذ عبد الوهّاب عزّام رحلة عمر هذه فيما كتبه 22 محرم 1358 هــ 13 مارس 1939 م في حديثه عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : " هذا عام ستة عشر من الهجرة ، وقد انساحت جيوش المسلمين في الشام والعراق وفارس وألقت أقاليم الشام بالمقاليد إلا فلسطين . وأبو عبيدة ابن الجرّاح يحصر بيت المقدس ، وقد ملأ الأسماع والقلوب بأس المسلمين وعدلهم ووفاؤهم .
عزم أهل بيت المقدس أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس في عهد المسلمين وحمايتهم وعدلهم ، ورغبوا أن يكون صاحب عقدهم عمر . . . عمر الذي ملأت سيرته الآفاق وسكنت إلى عهده النفوس، واشتاقت إلى رؤيته العيون وفصل عمر عن المدينة في جمع من الصحابة ومعه مولاه أسلم . خرج يغذّ السير إلى الشام ليتفقد أحوال المسلمين ، ويصالح أهل فلسطين . . .
ويمضي في طريقه حتى يبلغ أَيلة . ويتنظّر الناس موكب أمير المؤمنين يحسبون أنه سيطلع عليهم في زينته يحيط به جنده ورجاله . والذي رأى منهم هرقل حين فتح بيت المقدس قبل عشر سنين ، أو شهده من بعدُ في حلّ أو ترحال ، تخيل عمر قادم في موكب كموكب هرقل أو في موكب دونه ولكنه موكب ملك أو أمير ، ولما دنا عمر من أيلة تنحى عن الطريق وتبعه غلامه فنزل فمشى قليلاً ( ثم عاد فركب بعير غلامه وعلى رحله فَرو مقلوب وأعطى غلامه مركبه ) . وكأن عمر خاف أن يداخله الزهو وهو على مركبه في غير زينة فآثر أن يشعر نفسه أنه وخادمه سواء فتحول إلى رحل غلامه . فلما تلقاه أوائل الناس قالوا : ( أين أمير المؤمنين ؟ قال : أمامكم ( يعني نفسه ) . وذهبوا إلى أمامهم فجازوه حتى انتهى هو إلى أيلة فنزلها . وقيل للمتلقين : قد دخل أمير المؤمنين أيلة ونزلها . فرجعوا إليه )
ونظر الناس إلى رجل طويل جسيم أصلع أشقر شديد الحمرة كثير السَبلة في أطرافها صهوبة وفي عارضيه خفة . رجل لا تقع العين منه إلا على الوقار والتواضع والشدة في الحق والرأفة بالضعفاء . رأوا ملكاً في زي ناسك ، وراعي أمة في صورة راعي ثلة . رأوا إنساناً لا تفقد فيه الإنسانية حقيقة من حقائقها ، ولا يصيب فيه الجبروت باطلاً من أباطيله .
اجتمع الأساقفة والرهبان يرون رجلاً في يده الدنيا ولكنها ليست في قلبه ، يملكها ولا تملكه ، ويصّرفها ولا تصرّفه ، ويستبعدها ولا تستبعده . وليس شيئاً أن تكون زاهداً في صومعة ولكن العظمة كلها أن تكون زاهداً والدنيا تحت قدميك .
( ودفع عمر قميصاً له كرابيسَ قد إنجابَ مؤخرُه عن عقدته من طول السير، إلى الأسقف وقال : أغسل هذا وارقعه . فانطلق الأسقف بالقميص ورقعه ، وخاط له آخر مثله فراح به إلى عمر ؛ فقال : ما هذا ؟ قال الأسقف : أما هذا فقميصك قد غسلته ورقعته ؛ وأما هذا فكسوة لك منيّ . فنظر إليه عمر ومسحه ثم لبس قميصه ورد عليه ذلك القميص . وقال : هذا أنشفهما للعرق ) .
 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق