تهتم هذه المدونة وتعنى بتاريخ وتراث وأعلام العقبة وجوارها

الاثنين، 16 يوليو 2018

صفحة مجهولة من تاريخ العقبة عام 1949 م : محاولة اليهود احتلال العقبة وشرقيّ وادي العربة



القوّات اليهودية تجتاح منطقة جنوب النقب رغم اتفاقات الهدنة

كلوب يوعز إلى برومج بسحب القوّات الأردنية من غرب وادي عربة والعقبة

اليهود يهاجمون منطقة غرندل شمال العقبة على نحو 70 كم 

بعد احتلال المُرَشّش اليهود يندفعون إلى شرقيّ العقبة لاحتلال القلعة والميناء


تقدّم هذه الورقة مجريات آخر وقائع الحرب العربيّة اليهوديّة التي أدّت إلى احتلال الجزء الأعظم من فلسطين وانتهت باحتلال منطقة المُرَشّش ( إيلات ) بتاريخ 9 / 3 / 1949 م ، فقد واصلت القوّات اليهودية زحفها جنوباً نحو خليج العقبة وفقاً لما خُطّط له بين القوى الكبرى آنذاك لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ، غير أنّ أطماع اليهود تجاوزت ما تمّ التخطيط له إلى محاولة التقدّم إلى العقبة وشرقيّ وادي عربة لتوسيع المنطقة التي تخضع لهم حول رأس الخليج لتشمل العقبة فاجتازوا الحدَّ بين فلسطين والأردن باتّجاه العقبة ، ووقعت معركة بين قوّاتهم وبين القوّات الأردنية الموجودة في العقبة التي صمدت رغم قلّة الرجال والعتاد صموداً جعل القوّة اليهوديّة تتردّد في اقتحام العقبة ، ثمّ اضطّرت إلى أن تنسحب إلى ما وراء الحدِّ نحو المُرَشّش بعد تدخّل الإنجليز الذين رسموا لليهود خطوطاً منعوهم من تجاوزها . لتنتهي بهذا أحداث الحرب العربية اليهودية بعد توقيع الهدن العربية اليهودية ، ورغم تدوين تفاصيل تلك الحرب إلّا أنَّ ما يتعلّق بمحاولة احتلال العقبة لم يشر إليه أيٌ ممّن أرّخ لدور الأردن في الحرب العربية اليهودية وهذا غريب جدّاً ، ووحده الكاتب الغربيّ لورنس غريز وولد الذي تناول تلك الأحداث التي تتناولها هذه الورقة ــ فيما وصل إلينا ــ . 



إنّ الإشارة الوحيدة في المصادر العربية ــ فيما اطّلعت عليه ــ لمحاولة اليهود احتلال بلدة العقبة عام 1949 م ذكرها الأستاذان حمدي حافظ ومحمد عبد الرازق خليل في كتابهما الصادر عام 1957 م فقالا : " في الطرف الشمالي الشرقي للخليج يقع ميناء العقبة في الأراضي الأردنية ، وقد حاول اليهود في أعقاب حرب فلسطين احتلال هذا الميناء فأحدث هذا ضجّة انتهت بعد تمكّن دخول القوّات الإسرائيلية إلى هذه المنطقة ، ولكنّها احتلّت جزءاً من الساحل إلى جانب العقبة طوله خمسة أميال ويُسمّى أم رشرش ، وهو الجزء الذي أطلقت عليه إسرائيل فيما بعد إيلات " أ . هــ ، ونقل هذا بحرفه الأستاذ خالد عبد الحميد فرّاج في كتابه الصادر عام 1967 م فقال : " في الطرف الشمالي الشرقي للخليج يقع ميناء العقبة في الأراضي الأردنية ، وقد حاول اليهود في أعقاب حرب فلسطين احتلال هذا الميناء فأحدث هذا ضجّة انتهت بعد تمكّن دخول القوّات الإسرائيلية إلى هذه المنطقة ، ولكنّها احتلّت جزءاً من الساحل إلى جانب العقبة طوله خمسة أميال ويُسمّى أم رشرش ، وهو الجزء الذي أطلقت عليه إسرائيل فيما بعد إيلات " أ . هــ

ولاحتلال منطقة العقبة الغربيّة التي تُعرف باسم المُرَشّش دراسة أخرى سأتناولها في مناسبة أخرى . أمّا في هذا المبحث فالهدف تفصيل القول في عملية احتلال العقبة في شهر آذار عام 1949 م .
لقد كانت البداية حينما قرّر كلوب تنفيذ المخطّط الإنجليزي بتمكين القوّات اليهودية من احتلال منقطة غربيّ العقبة لتكون رئة لليهود على البحر الأحمر ولتحقيق هذا الهدف أوكل كلوب قيادة القوّات الأردنية في وادي عربة المؤلّفة من سريّتين للضابط الإنجليزي برومج حتى إذا ما حان تنفيذ المخطّط بعد اتّفاقات الهدنة ووصول القوّات اليهودية إلى مشارف منطقة النقب أرسل كلوب برقيّة لبرومج لسحب القوّات الأردنية على الفور وإخلاء منطقة غرب وادي العربة وغربيّ العقبة حتى الحدود المصرية أي منطقة المُرَشّش وفيما يلي نصّ هذه البرقيّة :
الرقم من 3 / 17 / 2 / 811
التاريخ 6 / 3 / 1949
برقية ( فورى )
إلى ق م الجنوب مكرر ق م عمان
من القيادة
اسحبوا قواتكم من المراكز التالية فوراً :
أولا ــ جبل الردّادى .
ثانيا ــ وادى الحياني .
ثالثا ـ رأس النقب .
رابعا ــ أم الرشراش .
تجتمع القوات فى العقبة بالمواقع التى يعيّنها لكم الجيش البريطاني .
تنقل الأسلحة والذخائر بقدر الإمكان وتتلف التجهيزات الثقيلة ج " .
وتعليقاً على هذا قال عبد الله التلّ أحد كبار قادة الجيش الأردني وقائد معركة القدس : " هذه أوامر كلوب باشا ونفذها الكابتن برومج فسحب جميع القوّات من مراكزها قبل أن ترى اليهود بأعينها ، وكانت صدمة عنيفة للجنود الأبرياء أن تأتيهم الأوامر بترك ميناء أم الرشراش الحصين ، وهم لا يعلمون السرَّ فى ذلك ، وكانت الأوامر مستعجلة لدرجة أنَّ أغلب تجهيزات الجيش بقيت فى المراكز " أ . هــ
وهكذا تمّ لليهود احتلال المنطقة دون أن تقع لهم معركة واحدة ، ولم يكتف اليهود بهذا بل واصلوا الزحف بعد احتلالهم للمُرَشّش نحو قلعة العقبة وميناؤها ، وهذا ما فصّل فيه القول الكاتب الأميركي لورنس غريز وولد الذي بيّن أنّ إدارة المعركة من الجانب الأردني تخضع للقيادة الإنجليزية التي خطّطت مع اليهود لتسليمهم فلسطين وتحقيق وعد بلفور وممّا بيّنه لورنس غريز وولد :
1ــ لم يكن الجيش الأردني يمتلك من الذخيرة ما يؤهّله للاستمرار في الحرب مع اليهود . قال لورنس غريز وولد: " كان الجيش الأردني يملك ..... اثنتي عشرة رصاصة لكل رجلٍ من رجاله ، ليس غير ، عند إعلان الهدنة ! " أ . هــ
2ــ كان الإنجليز هم أصحاب الأمر في الأردن وكانوا يديرون الأردن وفق ما يريدون ، فقد كان المستعمرات والمدن اليهودية تُمدّ بالطاقة الكهرباية من المحطّات الأردنية . قال لورنس غريز وولد : " إلى الشرق من طريق جنين ــ حيفا كانت تقوم مستعمرتان صهيونيّتان صغيرتان ، وكانت هاتان المستعمرتان هما يامون وكفر دان ، وإذ كانتا ظاهريّاً مستعمرتين زراعيتين ، فقد استمدّتا حاجتهما من الطاقة الكهربائية من محطة روتنبرغ القائمة عبر الأردن . ممّا تحسن الإشارة إليه هنا أنّه في خلال الحرب الفلسطينية سُمح للقرى والمدن الإسرائيلية بأن تستمدّ حاجتها من الطاقة الكهربائية من الأراضي الأردنية " أ . هــ
وفي تفصيل احتلال اليهود للنقب الجنوبي ووادي العربة والمُرَشّش ذكر أنّ القوّات اليهودية بعد حوادث 14 شباط 1949 م قامت بالزحف نحو خليج العقبة فقال : " وبعد شهر تقريباً قام الصهيونيون بمحاولة جديدة في العقبة من أجل الحصول على كسب جديد يضاف إلى مكاسبهم الإقليمية السابقة ، على الرغم من أنَّ المرء قد يظنُّ أنَّ حافزهم إلى ذلك لم يكن غير الجشع المحض . وتفصيل ذلك أن اسرائيل تملك مرفأين ممتازين أنشاهما البريطانيون في حيفا وتل ابيب ، ولم تكن المملكة الأردنية تملك غير ميناء العقبة العتيق القائم عند رأس خليج العقبة . ولولاه  لكانت تلك المملكة مطوّقة بالبرِّ من جميع أطرافها وعلى الرَّغم من ذلك فقد حاولت إسرائيل أن تستولي عليه . وإنَّ ما وقع ذلك في الثامن من اذار،  بعد نحو من أسبوعين انقضيا على توقيع الهدنة مع مصر .
وتقوم العقبة عند تلك النقطة التي ينخفض فيها ذلك الفلق الجيولوجي المُسمّى وادي عربة الى ما دون مياه خليج العقبة ، ويستمرُّ تحت البحر الأحمر حتى ينبثق من جديد في الأراضي المصرية . بيد أنها ليست الموطن الاوحد الذي ينخفض فيه وادي عربة إلى ما دون سطح البحر . في أريحا حيث الطريق بين القدس وعمان تجوز جسر اللنبي فوق نهر الأردن يصل الوادي إلى حضيضه المنخفض ألفاً ومئتي قدم تقريباً تحت سطح البحر . أما في بحر الجليل ( بحيرة طبرية ) يبلغ انخفاضه نحواً من سبعمائة قدم تحت سطح البحر .وإنّما ينطلق نهر الأردن ( أو النهر الذي يجري نزولاً ) من الجداول المنبثقة من جبل حرمون ووادي البقاع في بحيرة الحولة ، ويتمعّج بضعة أميال ليندفع بعد ذلك إلى سلسلة من المضايق ودوّامات الأنهر تُسلمه متعثّراً الى تلك الأدغال القائمة على ضفافه الخصيبة ، ومن ثمَّ الى البحر الميت ذي الثروة المعدنية .
ويتّخذ نهر الاردن سبيله في محاذاة في وادي عربة . وهو نهر تاريخي لأنَّ وادي عربة موطنٌ تاريخيٌّ . فهاهنا وُجدت بقايا الإنسان القديم الذي يرقى إلى العصر الحجري ، قرب الجليل ، كما عُثر على عظام بعض الفيلة والاسود . وعلى طول جنبات المضايق التي توشك أن تكون عمودية يبدو التنضّد الطبقي Stratification  الذي ينهض دليلاً على أنَّ حيناً من الدهر كان وادي عربة خلاله تحت سطح البحر ، ويكشف عن العصور المتعاقبة التي انبثق اثناءها من تحت الماء ليغدوا برّاً من جديد .
وفي العقبه يندفع وادي عربة إلى الساحل الرملي الضيّق قبل أن يغوص في الخليج . وهنا تؤلّف جبال النقب الكوارتزية المخطّطة مثل سكر القند ( أو سكر النبات ) أساساً للمضايق الغرانيتية التي تجعل التسلّق عسيراً حتى على المعزاة . الوادي العميق المتعرّج ذو الجنبات الشديدة الانحدار يكاد يكون دائماً في الظلِّ ، وهو حافلٌ بالصخور المنفصلة البالغة الضخامة . وإلى نقطة تبعد مائة ميل أو يزيد إلى الشمال ، كان نهر الأردن قد خسر نفسه في البحر الميت ، فليس ينساب الآن في المجرى الضحل غير ما اجتمع من مياه الأمطار ـ إلا أنَّ الجبال تشهد في بعض الاحيان فيضاناً فجائياً مدمراً ، ينزل الصخور المنفصلة الضخمة من قنن التلال  حجارةً هائلة في حجم المنازل تتعثّر وتتدحرج في صدر الفيضان الاسمر المسوّر ، الحافل بالأنقاض والنفايات والهادر تهداراً عنيفاً فيما هو يهبط الوادي مندفعاً غامراً كلَّ ما يعترض سبيله حتى يبلغ الخليج ويرتمي في أحضان النسيان ، وكم من رجلٍ قضى نحبه في وادي عربة هذا . فمرّتين اثنتين حاولت الحكومة البريطانية أن تُنشئ طرقاً مرصوفةً بالحصباء في قرارة  الوادي . ولا تزال بعض المعدنية الصغير الممزَّقة تبدو للعيان ، ههنا وههناك ، على صفحة الرمل . واليوم تثب سيّارات الجيب التابعة للجيش الاردني فوق جوف الوادي طوال عشرين ميلاً من الخيفة والحذر ــ في موسم الأمطار ــ قبل أن تصعد في طريقٍ شديدة الانحدار تؤدي آخر الأمر إلى منبسط النقب المرتفع ، وإلى الطريق المؤدّي إلى النقب الاشتر ومعان .
وإلي الغرب من وادي عربة تقوم إسرائيل ، وجبال النقب الغربي وليس ههنا شيءٌ . لا ماءٌ ولا تربةٌ . ولكن ثمّة مأوى صيّادٍ عربيٍّ ، ونبعٌ صغيرٌ لا تصلح مياه للشرب إلّا حين يبلغ موسم الأمطار ذروته . وعبر راس الخليج تقع الأراضي المصرية و قريه أمُّ رَشْرَش بوصفها النهاية الشمالية لطريق تؤدّي عبر جبال سيناء إلى البحر الأبيض المتوسط . ولو أراد احدٌ أن يسلك الطريق الأقصر من العقبة إلى البحر الابيض المتوسط إذن لسلك هذه الطريق ، لأنها تتصل عند الجانب الاخر من الجبال بالطريق الممتدة ما بين العريش وغزّة . وهي شأن الطرق جميعاً مجازٌ ذو اتّجاهين وإلى شماليّ خطّ الحدود كما رسمته هدنه 24 شباط 1949 تقوم قريه العوجة الفلسطينية السابقة . وهي تقع على الطريق المعبّدة التي تمتدُّ إلى الموقع الجنوبيّ الاسرائيلي الحصين في بئر السبع . والعوجة مركز لمنطقه مجرّدة من السلاح وفقاً لأحكام اتّفاقيّة الهدنة المصرية الإسرائيلية التي نصّت على أحكام خاصّه بتلك المنطقة .
وحوالي مطلع آذار ، فيما كان مندوب إسرائيل والأردن قد توصّلوا إلى اتفاق خاص بالهدنة وقعه كلا الطرفين في 3 نيسان دخلت العوجة من بير السبع قوّات إسرائيلية مزودة في الدبّابات والمدفعية السيّارة ، والسيّارات المصفّحة و ناقلات الجنود ، واخترقت القوّات القرية ثمَّ انعطفت نحو الطريق المؤدّية إلى غزّة ، وبعد ميل أو نحوه عادت فانعطفت نحو طريق قديمة تقود الى بيرين ، وكانت هذه الطريق تجري في موازاة سكّة حديديّة مهجورة سايرت القافلة العسكرية الإسرائيلية حتى جبل الصَّبحة قبل أن تغيب عن الأنظار ، واجتازت القافلة الأراضي المصرية مسافة ميلٍ واحدٍ من بيرين ، وكان ذلك خرقاً خطيراً لأحكام الهدنة . صحيح أن الصهيونيّين لم ينقطعوا يوماً عن خرق تلك الأحكام منذ أن دخلوا المنطقة المجاورة للعوجة ولكنهم هذه المرّة بالغوا في العدوان ، فغزوا الأراضي المصرية نفسها .
وفي ليل 6 ــ 7 آذار سلكوا الطريق المتّجهة شرقاً نحو خليج العقبة معتدين بذلك على حرمة الحدود المصرية . وفي صباح اليوم السابع من آذار دخلوا قرية امّ رشرش وطردوا سكّانها منها مضرمين النار في منازلهم . وبعد انقضاء أسبوع على هذا العدوان أخبرني مهندس اسكتلندي من مهندسي التعدين كان يقطن ، هو وابنه قرية أمّ رشرش قائلاً : " إنَّ أؤلئك المجرمين ما كانوا يمزحون . لقد أخرجوني من بيتي ، ونبهوه أمام عيني انا لا أدري أين ولدي ، ولكني أحسب أنه سليمٌ في التلال " .
وفي اليوم الثامن من آذار شعرت حامية العقبة الهزيلة بالعدوان الإسرائيلي من طريق بعض العرب الذين حملوا إليها نبأه ووصفوا لرجالها ضخامة القوّة اليهودية المغيرة والأسلحة التي زُوّدت بها .
والعقبة ليست بلدةً ذات شأن ، سواء من حيث الاتّساع أو من حيث الثروة . لقد صهرت النحاس ، في تاريخها القديم ، لفراعنة مصر . ثمَّ إنَّ الملك سليمان أطلق عليها اسم إيلات عندما كانت السفن التجارية القادمة من المحيط الهندي وأرض مصر تحمل البضاعة عبر البحر الأحمر أو القنوات التي تصل النيل بالبحر الأحمر ، تلك القنوات التي وُجدت على نحو يكاد يكون موصولاً منذ الألف الثاني قبل الميلاد ، والتي أفاد المهندس الفرنسي دي ليسبس من آخر قناه منها ، في حفر قناه السويس الحاضرة .
وبعد مجيء الرومان صارت العقبة تُعرف بإيلاتا ، واكتسبت جداراً بحريّاً حجرياً . حتى إذا سقطت روما عادت فعُرفت بالعقبة كرّةً أخرى ، وسكنها جماعه من التجّار العرب ومن بعدهم الأتراك .
وبنى الأتراك في العقبة قلعةً حصينةً في العقبة ، ولكنّها لم تصمد في وجه السفن الحربيّة البريطانيّة وبنادق العرب المقاتلين مع الكولونيل لورانس .
امّا اليوم فتكاد القلعة تكون خربة كالجدار البحري ن ولكنهما كليهما دليلٌ شاهدٌ على ماضيها المجيد . وفيما عدا ذلك ، تقوم في العقبة اليوم محطّة تضاهيها في الصغر لتوليد الكهرباء ، وهي تصطنع ايّما ضربٍ من ضروب الوقود تقريباً ، ابتداءً من الحطب العائم على وجه الماء إلى الكيروسين . وثمّة كذلك فندق صغير يديره رجلٌ عربيٌّ كان في وقتٍ ما مهرّباً للمسكرات في نيوجيرسي .
أمّا البلدة نفسها فتتألّف من مائة منزلٍ تقريباً في محاذاة زاوية الكثبان التي يخترقها وادي عربة عند مصبّه . وعلى منتصف الطريق الهابطة من سفح الكثيب ، ووسط غيضة من النخيل ، ينهض مسجدٌ صغيرٌ ذو مئذنةٍ اعلاها مخروطيّ الشكل ، وسطحها من حديد مُغَلْوَن ( مزيبق ) وسكّان البلد صيّادو سمك وتجّار صغار .
وعلى مسافه خمسين ياردة تقريباً ، من الجدار البحري الروماني ، ورصيفه الحجري الاقلّ فعالية ، على الرغم من انّه أحدث من الجدار عهداً ، يقوم بناءٌ مربّعٌ مطليٌّ بالكلس ينتظم مكتب محافظ البلدة ، ومدير شرطتها ، وثكنةً تضمُ أربعة رجال من حرس الصحراء التابع للجيش الأردني ، وبعض الغرف للضيوف غير المنتظرين . يضاف الى ذلك مطبخٌ يُشرف عليه عربيٌّ فارعُ الطول مُخيَّب الآمال . وأيّاً ما كان ، فقد كان هذا البناء هو حصن العقبة وخطّ دفاعها الأوحد .
ولكن كان ثمّة تليفون أيضاً . فلم تكد الحامية الرباعية أو الخماسية ( إذا أضفنا إلى الجنود الأربعة قائدهم وكان برتبه رقيب  ) تتثبّت من صحّة الأنباء التي نُقلت إليها عن الغزو الإسرائيلي حتى نصب أفرادها مدافعهم من طراز لويس على سطح القلعة ، مولّين ظهورهم حدود المملكة العربية السعودية التي تبعد عن مقرّهم بضع ياردات ليس غير ، واستعدّوا للدفاع عن القلعة في وجه الغزاة بالغاً ما بلغ عددهم . فيما حاول عامل التليفون ان يتّصل بقيادة القوّات الأردنية العليا في عمان .
وعند الساعة التاسعة صباحاً تقدّمت القوّات الإسرائيلية عبر طريق أمّ رشرش اقتربت من الحدود عند وادي عربة .
وفي ذلك الحين كان جناحها الأيمن على ما بعد ثلاثين ياردة تقريباً من مياه الخليج ، في حين كان جناحها الأيسر يستدير حول الطريق الضيّقة القذرة التي تمتد من شارع العقبة الرئيسي إلى رأس الخليج عند مأوى صياد السمك .
وبين وادي عربة والبلدة وقلعتها تقوم أرض منبسطة مرتفعة بعض الشيء تتحدّر نحو البحر . وفي الوقت نفسه ، يمتدُّ هذا المرتفع الرملي عبر الطريق المؤدّية إلى النقب ، ويغدو محطّاً صالحاً للقاذفات الخفيفة . ولقد خلّف البريطانيّون هناك ، عند نهاية الحرب العالمية الثانية ، مطاراً مُخرَّباً بعض الشيء ولكن في الإمكان استخدامه عند الاقتضاء ، كما خلّفوا بناءً حكوميّاً .
وفي تلك الأثناء كان عامل التليفون في العقبة قد وُفّق إلى الاتصال بالموقع العسكري في معان ، فسارع هذا إبلاغ القيادة العليا في عمان النبأ . ونشط غلوب باشا للعمل . وجُمع حرس الصحراء من جميع المواقع للعقبة وأمروا بالالتحاق بالحامية المدافعة عن القلعة ثمَّ إنَّ غلوب أشعر القيادة البريطانيّة في مصر بالحالة ، وكانت معاهده 1945 تفرض على كلٍّ من بريطانيا والمملكة الأردنية ان تهرع إلى نجدة الأخرى حين يتهدّدها عدوٌ بخطر . ولقد كانت ههنا حالة من حالات الخطر . ومع ذلك فقد بدا وكأنَّ حليفة الأردن سوف تصل لنجدتها بعد فوات الأوان .
وفي القلعة كان قد انضمَّ إلى حاميتها المؤلّفة من خمسة رجال مايجور بريطاني ذو قوّة بالغة وبأسٍ شديدٍ ، هو جيوفري كروكر Crocker وكان قد لمع نجمه في حملة بورما عندما قضى نحواً من ستّة أشهر خلف الخطوط اليابانيّة واقضَّ مضاجع الجند الياباني بغاراته المحكمة ، فنال من أجل ذلك وسام D . S . O  البريطاني .
وكان رجلاً نحيلاً الطويل ذا شاربٍ من أسود غير مهذّب . وكان يتنشق السعوط على نحو موصول حتى لا تغدو مناديله كاكيّة اللون . وكان قد قام بمأثرة حديثة العهد قبيل إنسحاب المصريّين من الفالوجة ، وبعد توقيع الهدنة بيومين . وتفصيل ذلك انَّ هذا الضابط البريطاني اصطحب جنديّاً عربيّاً وتسلّل عبر إسرائيل طوال يومين اثنين قبل ان يصل إلى المكان الذي رُكمت فيه الذخائر الحربيّة المصريّة التي استولى عليها الصهيونيون . وكانت هذه الذخائر محوطة بالأسلاك الشائكة . حتى إذا اقترب هو والجندي العربي منها نسفاها عن بكرة أبيها ، ثمَّ انقلبا وسط دويِّ الإنفجارات إلى الحدود الأردنية . وتميّز الإسرائيليون من الغيظ بعد أن حُرموا أبد الدهر استعمال الذخائر الحربيّة التي استولوا عليها في الفالوجة . ولكنَّ صاحبنا لم ينل هذه المرّة وسام D . S . O !
ولنعد إلى الهجوم الإسرائيلي على العقبة . إنَّ تحسّناً ما لم يطرأ على الوضع عندما حان وقت الظهيرة . ولم يقم الإسرائيليون بأيّما حركة صاعقه . لقد بدوا ، على عكس ذلك ، وكأنّهم يتقدّمون وئيداً وئيداً ، ناشرين جناحيهم ، حاشدين دبّاباتهم وسيّاراتهم المصفّحة في الوسط . وعلى سطح القلعة كانت الحامية العربية قد نصبت مدفعي لويس ( طراز 1915 ) ومدفعي مورتر ( طراز 1915 أيضاً ) .
ورُسم خطٌّ نظري على طول الرمال ن يبعُد ثلاثمائة متر عن القلعة . حتى إذا اجتاز الإسرائيليّون ذلك الخطّ تعرَّضوا لكل ما كان في طاقة العرب ان يقذفوهم به . ولم يكن ذلك شيئاً كثيراً .
 وتابع الإسرائيليّون زحفهم تتقدّمهم الدبّابات وهي تهدر وتضجّ فوق الرمل ، وتخيّم من خلفهم سحابة من غبار كانت ترتفع في بطء وتسدل حجاباً من الظلام على كلِّ ما وراءها . وعلى سطح القلعة ، تحفَّز الجنود العرب للعمل وقد عصفت في نفوسهم نشوة التوقّع . وفحصوا مدافعهم ليتأكّدوا من استعدادها الكامل للعمل ، كما فحصوا قذائفهم العتيقة . وعند الطرف الغربيّ من السطح راح قائد الحامية يراقب الدبّابات الزاحفة من خلال المنظار الحربيّ .
وصاح بعضهم :
وحقِّ الله لقد أقبلوا !
وقال آخر :
سوف نقضي عليهم بإذن الله !
وأخيراً وثب قائد الحامية صائحاً :
أمطروهم بناركم أيّها الشباب !
وفي الحال قصفت مدافع الحامية العربية ، ورفع قائدها مدفع تومي وأمطر المهاجمين بناره الحامية .
وكانت القوّات الإسرائيلية محجوبة بالغبار وبالرمل الذي رفسته الدبّابات والسيّارات المصفّحة . امّا الآن فقد غدت الدبّابات والسيّارات نفسها محجوبة عن النظر بعد أن أثارت قذائف المدافع ينابيع من الرمل في الهواء . وحتى قذائف المورتر ، انفجرت برغم عتقها وطوال عدّة دقائق ، تواصل المطر الرصاصي ولكنّه كان أخذ في الضعف شيئاً بعد شيءٍ بسببٍ من نفاد الذخيرة . وكان واضحاً أنَّ الهجوم الإسرائيلي قد توقّف . وفي تلك اللحظة من الصمت النسبيّ ،  دوّى في الجوِّ هدير طائرات ، واستدار أفراد الحامية العربية على ظهورهم  وحدّقوا إلى السماء ، المتوهّجة بأشعّة الشمس ، محاولين أن يحدّدوا مواقع الطائرات ، وكانوا على مثل اليقين من أنّها إسرائيلية .
ولكنَّ الطائرات التسع لم تكن إسرائيلية . كانت طائرات بريطانيّة وصلت في الوقت المناسب . إذ ما كادت تقلع من  برزخ سيناء حتى تقدّمت إحدى الدبّابات الإسرائيلية وأطلقت من مدفعها قذيفةً واحدةً على القلعة . وأصابت القذيفة القلعة عند نقطة تبعد بضعه أقدام فحسب عن وسطها ، واخترقت أربعه من جدرانها ، مندفعة نحو الصحراء الواقعة ضمن حدود المملكة العربية السعودية ، حيث انفجرت آخر الأمر . لقد كانت هي القذيفة المدفعيّة الوحيدة التي أطلقت في تلك المعركة . وعندئذٍ انكفأت القوّات الإسرائيلية في الرمل الى وادي عربة وما وراءه ، تراقبها الطائرات البريطانية من الجوِّ .
 وبعد ساعةٍ انقضت على إنسحاب الصهيونيّين إلى الأراضي الداخلة في دولتهم ، وصلت أوّل النجدات التي بعث بها الجيش الأردني إلى القلعة . ولم يكد الليل يهبط حتى كانت القلعة تنتظم ما يزيد علي مئتي مقاتل ومدفعيّة ميدان خفيفة . وكان طائرات سبيتفاير البريطانيّة قد رابطت في المطار العتيق ، واحتلَّ البريطانيّون البناء الحكومي الذي أشرنا إليه آنفا .
وفي صباح اليوم التالي أقحمت ناقلتان بريطانيّتان من ناقلات الأعتدة والجند أنفيهما في الساحل الرملي ، وكان على ظهرهما دبّابات و كتيبة من كتائب لنكولنشاير . وغصّ المطار الصغير بمجموعة أخرى من الطائرات ، كانت هذه المرّة قاذفات خفيفة . وكانت الدبابات ــ وعددها ثمان ــ من نوع المعروف بالـ Crusaders ومن الطراز الأحدث . فلم تكد تهبط المكان حتى احتفرت لنفسها مواقع في الرمل فليس يبدو منها غير أبراجها ، منشئةً بذلك خطَّ ماجينو متحرّكاً قبالة البلدة . وفي محاذاة الدبّابات شقَّ أفراد كتيبة لنكولنشاير عدداً من الخنادق وأقاموا ثكنات ومطبخاً وبيوت خلاء . وفي البلدة نفسها كان مخزن من مخازن نافي قد بدأ أعماله ، فهو يوزّع شفرات الحلاقة ، والطعام المحفوظ في العلب ، والويسكي الإسكتلندية والكندية ، وورق الكتابة ، وغيرها على من يؤهّلهم وضعهم لذلك . وأذكر أنَّ ثمن الزجاجة الواحدة التي تتّسع لربع عالون كامل من الويسكي الكندية كان نحواً من دولار و وخمسة وسبعين سنتاً .
وفي ذلك الأصيل اقتربت من رأس الخليج سفينتان حربيّتان بريطانيّتان ، أو مدمّرتان ثقيلتان والقتا مرا سيهما فيه . وفي الحال أديرت مدافعهما وسُلّطت على أمِّ رشرش والطريق الى وادي عربة .
وكان نفر من جنود الدبّابات البريطانيّة قد خدم في فلسطين خلال فترة الاختطاف وإلقاء القنابل ، فهم غير نزّاعين لأن يقفوا موقف العطف على الصهيونيّين . لقد تشوّقوا إلى أن يروهم يهجمون لأنهم كانوا على أتمّ الاستعداد للردِّ عليهم وكأنَّما يتوقّعون رومل نفسه . ولكن آمالهم مُنيت بالخيبة . لأنَّ الصهيونيّين ما لبثوا أن ولّوا الأدبار خلسةً بعد بضعة أيّام تحت جنح الظلام . وبعد أسبوع انقلبوا إلى مراكزهم بخفّي حنين .

وفيما ظلَّ آخر الصهيونيّين هناك كقوّةٍ رمزيّةٍ ،وفد اثنان من مراسلي الصحف إلى مسرح الحوادث . ذلك بأنَّ الراديو الإسرائيلي أعلن ــ فيما لم تأتِ أيّما أنباء عن الحوادث شرقيّ الأردن ــ إنَّ الصهاينة أحرزوا  نصراً عظيماً في العقبة واحتلّوا الميناء . فما كان من لويس هيرن Herne مندوب التايمس اللندنيّة وكينيث بيلبي Bilby مندوب الهيرالد تريبيون إلّا أن فارقا الحياة الناعمة الباهظة النفقات ليوافيا صحيفتيهما بأنباء المعركة وهكذا هبطا عمّان وحصل من غلوب باشا على جوازين أتاحا لهما السفر بالترولي من عماّن إلى معان . ومن ثمَّ إلى النقب الأشتر والعقبة بسيّارة جيب في نحو عشر ساعات . وفي العقبة لم يجدا مكاناً يبتان فيه غير ثكنة القلعة لأنَّ الجنود البريطانيّين كانوا قد احتلّوا الفندق . حتى إذا ألقيا نظرة على المكان الذي جرت فيه الحوادث حاولا أن يبرقا برواياتهما من عمّان إلى لندن ونيويورك . ولكنّهما لم يوفّقا في ذلك .
لأنَّ المراقبة الأردنية كانت لا تجيز أن تصدر عن عمان أيّما رسالة برقيّة إلّا بعد أن تقترن بتوقيع الملك عبد الله نفسه - أو هذا ما كان يبدو على الأقل . وعلى أي حال ، فقد أطلقت رسائل هيرن وبیلبی ، آخر الأمر ، من عقالها ، ولكن بعد فترة غير يسيرة . فلا عجب إذا استثار ذلك الصنيع حنق المراسلين وثورتهما . ( ولقد لقي غلوب باشا المتاعب نفسها مع الرقابة الأردنية في كثير من الأحيان ! ) .
والواقع أنَّ معركة العقبة تكتنفها الأسرار بعض الشيء . فقد بدا ، من عدد القوّات الصهيونيّة المهاجمة ، أنَّ المناورة كانت تهدف إلى الاستطلاع أو الاستكشاف . يؤيّد ذلك أنَّ غرندل الواقعة جنوبي البحر الميت مباشرة استهدفت لهجوم إسرائيلي آخر كان القصد منه ، فيما يبدو ، قطع السبيل على الإمدادات الوافدة من عمّان إلى العقبة ، أو لعلّه أن يكون مجرّد مناورة لتحويل الأنظار عن حقيقة الأهداف الإسرائيلية . بيد أنه بسبب من ضعف القيادة الإسرائيلية المركزيّة ــ هذا الضعف الذي تجلّى في فترات الحرب الفلسطينيّة كلها ــ لم يُوفّق الصهيونيّون إلى تنسيق جهودهم تنسيقاً حسناً . فقد وقع الهجوم على غرندل صباح اليوم السابع من آذار ، في حين وقع الهجوم على العقبة بعد يوم من ذلك التاريخ .
وبكلمة ثانية ، لقد أراد الصهيونيّون الاستيلاء على العقبة إذا ما استطاعوا إكراه حاميتها على الاستسلام . وبذلك يتمُّ ( أمر واقع ) fait accompli إسرائيلي نموذجي يناقشون على أساسٍ منه في مؤتمر الهدنة برودس . فقد أدركت الحكومة الإسرائيلية أنَّ مواجهة العالم بأمر واقع تشكّل أكثر من نصف معركة الدبلوماسية ، وأنَّ مهمّة هيئة الأمم المتحدة الرئيسيّة أشبه بمهمّة الختم المطاطي ليس أكثر أو أقل ! وأيّاً ما كان ، فقد كانت مباحثات الهدنة دائرة آنذاك ، وكان الإسرائيليّون مصمّمين على أن ينسحبوا حالما تبدي الحامية العربية مقاومة ذات شأن . إنّهم ما كانوا يعرفون شيئاً عن هزال تلك الحامية . والذي يبدو أن التحية الهائجة الحازمة التي استقبلوا بها قد أكرهتهم هم على الاستسلام بدلاً من الحامية الأردنية الصغيرة .
وبعد بضعة أيام أخرى ، وصلت لجنة التحقيق التابعة لهيئة الأمم المتحدة . وكان يرأس هذه اللجنة الدكتور بول مون Mohn ، وهو سويدي قضى شطراً من الحرب العالمية الثانية في معسكر من معسكرات الاعتقال . كان رجلاً مهزولاً ذا قلب كبير وإرادة حسنة ، ولكنّه في ما بدا لي كان عالماً أكثر منه رجلاً صالحاً لمثل هذه المهمّة . وكان يعاونه کولونيل أميركي ، وضابط فرنسي يحمل الرتبة نفسها ، وجنديّان آخران أحدهما أميركي والآخر فرنسي . وكان مع اللجنة وحدة إذاعية أميركية كاملة ، فلم يكد البريطانيون ينسحبون من فندق العقبة حتى امتلأ من جديد بالأميركيّين والفرنسيّين . أما أنا فبقيت مع جيوفري کروكر في القلعة . وكانت البلدة خلوّاً من الطعام تقريباً . ولقد شعرنا بأنَّ صاحبنا قائد الحامية العربية أقدر منا على ضمان القوت اليومي ، فعهدنا إليه في هذه المهمة .
وبعد أسبوع قضيته في الثكنات أصبت بالحمّى ، وارتفعت حرارتي ارتفاعاً عالياً ، ولم أعد قادراً على أن أصنع شيئاً . وعالجني كروكر بالعرق وعصير الليمون الحامض ، ولكن ذلك لم يجدني فتيلاً . وأخيراً استدعى الطبيب العسكري البريطاني للعناية بي . وبعد أن تناولت بضعة أقراص من الدواء الذي وصفه لي استعدت نشاطي في سرعة أثارت شكوك الطبيب . ولكن ذلك أفقدني على أي حال أيّاماً عديدة ، وفصل ما بيني وبين الأحداث الجارية .
وكانت لجنة التحقيق الدولية قد نشطت نشاطاً كبيراً وحصلت على معلومات وافية ضمنتها تقاريرها . والواقع أنّها علمت أحسن العلم بزحف القوّات الإسرائيلية من بير السبع . ومن أجل ذلك ما كاد تقریر الدكتور مون بنشر في نيويورك حتي دهشنا جميعا لأن نكتشف أنَّ الإسرائيليّين لم يتخطّوا الحدود المصريّة على الإطلاق ، وإذن فهم لم يخرقوا أحكام الهدنة ! وأمام هذا التشويه الكامل للوقائع اتّضح لنا أنَّ هيئة الأمم المتحدة كانت قد انتهت إلى هذا الاستنتاج العجيب : وهو أنَّ الدبّابات والسيّارات المصفّحة الإسرائيليّة كانت لها أجنحة ، وأنّها طارت من بير السبع طيراناً ، على الرغم من أنَّ السؤال عن الشيء الذي كانت تعمله عبر الحدود في الأردن تُرك من غير ما تفسير . واستاء العرب أعظم الاستياء ، طبعاً ، وعصفت في نفوس بعض الأميركيين في المنطقة ثورة حانقة .
وحوالي الفترة التي نُشر فيها ذلك التقرير الدولي قصدت لمقابلة المايجور هورنزبي Hornsby ( بوبلز Bubbles ) الذي قاد الكتيبة الأردنية في غرندل ، يوم السابع من آذار . وكان المايجور الشاب متحدّراً من رجلٍ نال شهرة كبيرة في شبه الجزيرة العربية ، ولم يكن هو ليعمل أيّما عمل يكسف من لمعان اسمه . وحين هاجم الإسرائيليون غرندل صباح ذلك اليوم من آذار كان هورنزبي على رأس قوّة أردنيّة صغيرة كانت تعمل حول غور الأشرم ، وهي الصحراء الواقعة إلى الجنوب الشرقي من البحر الميت .
وغرندل مفترق طرق . فأمّا الطريق الأفقية فتقود إلى أرض منحدرة كان للبريطانيين فيها ، ذات يوم ، مستودع لمعدّات الحربية ، وأمّا الطريق العموديّة فتؤلّف حلقة الوصل ما بين عمان ومعان . وليس ثمّة شيء في الجوار ، حتى ولا قرية أو نبع ماء . ومن هنا كان واضحاً أنَّ الهجوم تكتيكي المغزى أكثر منه عملاً حربيّاً قصد به إلى العدوان . ولم ينسحب المايجور البريطاني وجنوده الأردنيون الإثنا عشر . بل تخيّروا لأنفسهم موقعاً خلف مرتفع رملي وانتظروا وصول المصفّحات الصهيونيّة . حتى إذا أقبلت الشاحنات وسيّارات الجيب والسيّارات المصفّحة الإسرائيلية ( لم تشترك الدبّابات في هذا الهجوم فقد كانت الأرض وعرةً جدّاً ) واقتربت من موقع القوّة الأردنيّة ، جوبهت بسدٍّ من رصاص . واستولی الأردنيون على مجموعة حسنة من الأسلحة الأوتوماتيكية ، وأخذ الجنود الإسرائيليّون يتساقطون من شاحناتهم كما تتساقط أكياس الحنطة . وفي خلال دقيقتين اثنتين تقوّض الهجوم واختفت القوّة الإسرائيلية خلف الكثبان .
وفي الصباح التالي شنَّ الإسرائيليّون هجوماً جديداً . فبعد أن اكتشفوا وجود القوّة الأردنية في ذلك الموقع استاقوا مدفعيتهم إلى هناك . وكان لديهم كلُّ شيء . كان معهم ، وفقا لشهادة المراقبين ، كلُّ شيء ما عدا مدافع الحصار الضخمة من نوع برتا : مدافع قیاس 75 مم ، ومدافع قیاس 88 مم ، ومدافع قیاس 105 مم ، وعددٌ من المدافع السريعة الطلقات المضادّة للدبّابات ، وبعض المدافع المضادّة للطائرات . ومن السابعة صباحا حتى الظهر أطلقوا ستاراً من نار المدفعيّة فوق رمال غرندل نشر سحابةً من الدخان والرمل فوق مسرح المعركة . وعند الظهر تماماً كفَّ الإسرائيليّون عن إطلاق النار ، وتقدّمت ناقلاتهم الحافلة بالجند نحو الموقع للاستيلاء عليه من أيدي العرب . ولكنّهم لم يجدوا أحداً طبعاً .
ذلك أن بوبلز وجنوده كانوا قد غادروا الموقع الذي رابطوا فيه في اليوم السالف ، وانتقلوا إلى موقع جديد عند سفح كثيب يبعد ثلاثمائة ياردة عن الموقع الأوّل . ومن هناك أنشأوا يراقبون حركات الإسرائيليّين ويهدرون ضاحكين ملء أشداقهم . ولقد قدّروا أنَّ ستار النار الذي نشره المهاجمون فوق رمال الصحراء قد كلّف الصهيونيّين الأميركيّين مئة ألف دولار على الأقل . وفوق ذلك ، فقد مزّقت شظايا القذائف عجلات سيارات الجيب وناقلات الجند الإسرائيلية شرَّ ممزّق ، فغنم الجيش الأردني ما يزيد على عشرين سيارة نتيجة لذلك الهجوم العابث ، لأنَّ الإسرائيليّين ما كادوا يكتشفون أنَّ القوّة الأردنيّة قد أخلت الموقع حتى انكفأوا إلى إسرائيل ، واختتمت المعركة .
والحقُّ أن هذه الوقعة كانت آخر معارك الحرب . فمن ذلك الحين وقعت بين إسرائيل والدول العربية ( ما خلا العراق الذي ما يزال في حرب مع الإسرائيليّين ) سلسلة متعاقبة من الهدن أقامت سِلماً تقنيّاً ، سِلماً كان الإسرائيليّون قد خرقوا حرمته ، قبل ذلك ، خرقاً متكرّراً من طريق العدوان الإقليمي ، وأعمال الخطف، وشنِّ الغارات " أ . هــ
وقال : " …. خليج العقبة ، حيث أنشأت تلّ أبيب ميناء عميق المياه عند مأوى ذلك الصيّاد القديم الذي أشرنا إليه آنفاً ، وأطلقت عليه اسم إيلات الجاهز . وتحمل المياه إلى هناك على متون الطائرات ، لأنّه ليس ثمّة ينابيع أو طرق بين بير السبع وإيلات . ولقد وُفّق نفرٌ قليلٌ من الإسرائيليّين المغامرين إلى أن يبنوا آخر الأمر بيوتاً لهم حقيرةً في ذلك المكان القصيّ ، فهم يأكلون من علب الطعام المحفوظ التي تلقى إليهم بواسطة المظلات . أمّا في موضوع الميناء العميق المياه فنحبُّ أن ننصَّ ههنا على أنَّ الطرف الشمالي من خليج العقبة يضاهي زميله الفارسي ضحولةً ، وأنَّ الجزء القابل للملاحة من ذلك الخليج إنّما يبدأ في المنطقة العربية " أ . هــ 

قلت : هكذا انتهت الحرب العربية اليهودية كما أراد لها الإنجليز أن تنتهي ، وبهذا أنهوا مهمّتهم في تنفيذ وعد بلفور في إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق